كتب الأستاذ الفاضل نجيب عصام يماني مقالا في صحيفة عكاظ بتاريخ 27/5/1431ه تحت عنوان «الإجهاض ونفخ الروح»، خلص فيه إلى أن ماجاء في حديث مسلم بخصوص نفخ الروح من أنها تكون بعد أربعة أشهر من الحمل يتعارض مع حقائق علمية وطبية بالتالي عدم الأخذ مع كونه حديثا صحيحا مثله في ذلك مثل بعض الأحاديث الصحيحة التي لم يأخذ بها بعض العلماء مثل الإمام الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما، وقد جاء كلامه هذا كله تعليقا على فتوى أحد العلماء المعاصرين الذي يبيح الإجهاض في فترة الأربعة الأشهر الأولى من عمر الجنين بدون أي سبب لأنها فترة ما قبل نفخ الروح. أود في البداية ان أزجي الشكر للأستاذ نجيب لإثارته هذا الموضوع المهم وأويده بخصوص الخطأ الكبير الذي يقع فيه بعض المفتين في هذا الموضوع، والأمر يقتضي التصحيح وفق أمرين أساسيين، الأمر الأول تحرير جميع النصوص النبوية (الشرعية) الخاصة بنفخ الروح ومعرفة مقاصدها والتوفيق فيما بينها من دلالات، والأمر الثاني، الاهتداء بحقائق العلم الحديث خاصة أن قضايا الأجنة في الأرحام اليوم تصور كواقع مشاهد فهي اليوم ليست من عالم الغيب في النواحي العضوية والحركات والتقديرات الطبية بل من عالم الشهادة من خلال أجهزة التصوير الدقيقة، وتبقى النواحي المعنوية والنفسية والمستقبلية من رزق وأجل وشقي أو سعيد في علم الغيب عند الله، وقد علقت على مقال الأستاذ نجيب الكاتبة الدكتورة عزيزة المانع تسأل: هل الحياة تعني الروح؟ فرأيت من باب تخصصي الدقيق في علم الأجنة أن أشارك في التوضيح. إن الأحاديث الواردة في السنة النبوية في هذا الموضوع ثلاثة أحاديث: واحد منها في صحيح البخاري واثنان منها وردا في صحيح مسلم، ومعلوم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فالمبادرة السريعة في ترك أي حديث صحيح ليس من هدي السلف الصالح ويفتقر إلى أبجديات التروي والنظر، والجمع بين ما يرد من أحاديث صحيحة وفهمها على ضوء شرح بعضها لبعض وتآزر بعضها لبعض يعد منهجا علميا، بعد ذلك إن وجد حديث صحيح ظني الدلالة تعارض مع حقائق علمية أو معطيات شرعية أو إنسانية فيمكن للرواد من الفقهاء عدم الأخذ به وهذا النوع من الأحاديث نادرة وقليلة جدا. فرواية الإمام البخاري تنص كما يرويها عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) على النحو التالي قال: حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (وهو الصادق المصدوق) قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا يؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح». فالحديث فيه إشارة على أن نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر (بعد نهاية الأربعين الثلاثة) وعليه أفتى بعض علمائنا الأجلاء بجواز الإجهاض خلال الشهور الأربعة الأولى من عمر الجنين بلا ضرورة ملجئة لأنه أي الجنين لم ينفخ فيه الروح بعد، أما رواية الإمام مسلم فإنها نفس رواية الإمام البخاري مع زيادة لفظة «في ذلك»، ونصها عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الصادق المصدوق قال: «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) رواه مسلم فلفظة «في ذلك» تعود إلى الأربعين يوما، فجمع الخلق والعلقة والمضغة تتم كلها في الأربعين يوما الأولى، أما قوله في الحديثين «مثل ذلك» فإنها تعود على شيء آخر غير الوقت وأقرب شيء هنا هو جمع الخلق والمعنى أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك (أي في ذلك العدد من الأيام) علقة (مجتمعة في خلقها) ثم يكون في ذلك (أي في نفس الأربعين يوما) مضغة (مجتمعة مكتملة الخلق المقدر لها) وهذا المفهوم قد حرره وأيده بعض العلماء السابقين والعصريين إن الحديث الثالث الذي ورد في الأجنة الذي رواه الإمام مسلم بسنده عن حذيفة بن أسيد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة يبعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يارب ذكرا أم أنثى، فقضى ربك ماشاء ويكتب الملك) يؤيد وبقوة ما ورد في صحيح مسلم من أن الأربعين يوما الأولى ينتهي عندها تكوين مرحلة المضغة لتبدأ بعدها مرحلة تكوين الأعضاء الأساسية للجنين التي يكون بعدها نفخ الروح وبهذا يصبح محررا من الناحية الشرعية من الثلاثة الأحاديث بأن نهاية تكوين المضغة هو الأربعين يوما الأولى من حياة الجنين تليها مرحلة سريعة ومتلاحقة هي مرحلة تكوين بقية الأعضاء الجنينية والتي يكون بعضها قد بدأ خفيفا وهي مرحلة تمتد إلى نهاية الأسبوع الثامن أي نهاية شهرين من عمر الجنين لتبدأ بعدها مرحلة النشأة كما وصفها القرآن الكريم وهي ما تعرف بمرحلة نمو الأعضاء وتطورها كما وصفتها كتب الأجنة وذلك بتهيئتها للقيام بوظائفها، كما تختص بنفخ الروح فيها عند جمهور المفسرين، وعليه فإن نفخ الروح يمكن أن يكون بعد شهرين فقط من عمر الجنين وليس بعد أربعة أشهر، والعجيب جدا لكل من تابع الأجنة المجهضة بعد شهرين أو حتى رأها في تصوير الأجهزة الحديثة المتخصصة يعرف تماما أنه يرى جنينا مكتملا من حيث الأعضاء والتكوين لكنه في حجم متناهي الصغر (نانو الأجنة) لأن جميع الأجهزة من دماغ وعين وقلب وأطراف وكبد وأمعاء وكلية تكون في صورة مصغرة جدا والجنين بأكمله وبجميع أعضائه لا يتعدى اثنين أو ثلاثة سنتيمترات يبقى السؤال حول العلامات الدالة على نفخ الروح في الجنين وهناك فرق بين تحديد ماهية (كنه) الروح وبين العلامات الدالة عليها لأن الروح كما ذكر القرآن الكريم بأنها من أمر الله، وهناك فرق بين الحياة وبين الروح فكل إنسان فيه روح فهو حي ولا يشترط أن كل إنسان حي فيه روح، فالجنين مثلا قبل نفخ الروح حي وخلاياه حية دون روح (وسأعود في مقالة مستقلة أوضح الفرق بين الحياة والروح) وهناك مؤثرات (علامات) دالة على أن هذا الجنين قد سكنته الروح وسرت في داخله كما أن هناك علامات على سريان التيار الكهربائي في الأسلاك فإن سلبت تلك الأسلاك التيار تبقى صلاحيتها (حيويتها في حالة الخلايا )مستمرة إلا اذا أتلفت الأسلاك أو ماتت الخلايا. ومن الأمور الدالة على نفخ الروح مايلي:- 1- تهيئة الأعضاء الجنينية وجاهزيتها بعد شهرين من عمر الجنين وهذا ما أشارت إليه ماسبق ذكره من نصوص السنة وهو يتطابق تماما مع ما تذكره كتب الأجنة والجاهزية باكتمال المطلوب من التكوينات الخاصة بالجنين تمهد لحلول الروح فيه (يمكن مراجعة ذلك في كتابي: الحمل والولادة خطوة بخطوة). 2- إن نوم الجنين ويقظته علامة على نفخ الروح فيه قياسا على النوم واليقظة في الإنسان في مرحلة ما بعد الولادة وقد ثبت أن الجنين في هذه المرحلة ينام ويهدأ أو يسكن. 3- يشير تصوير حركات الجنين على أن للجنين حركاته الإرادية وهي دليل قوي على وجود الروح وقد أشار إلى ذلك ابن القيم وسجلته بدقة الأجهزة الحديثة عند نهاية الشهر الثاني من الحمل، كما أظهرته بالرؤية والمشاهدة الأجهزة فوق الصوتية حركات التنفس والأطراف العليا وضربات القلب وكحركات البلع وحركة اليد إلى الفم ومص الأصابع والعديد من الحركات التي تنمي عن تصرف إرادي وهذه قد تكون مظنة دقة عمل الجهاز العصبي المركزي وبعضها يظهر مع بداية الشهر الثالث وبعضها مع نهايته أو بعد ذلك بقليل ولكنها في الأخير مؤشر على نفخ الروح خاصة الجهاز العصبي المركزي نفسه الذي هو علامة قوية على وجود نفس داخل الجسم هي نفس الجنين وجسمه. 4- إن حالة الجنين بعد أربعة أشهر من الحمل لا تتغير عن حالته بعد شهرين أو ثلاثة أشهر من الحمل ولا تظهر أي إضافات على الجنين تدل على نفخ الروح وبذلك فإن الجمع بين النصوص الشرعية (النقل) وبين الحقائق العلمية المشاهدة (العقل) هو محل الترجيح لنفخ الروح الذي هو بعد شهرين وليس أربعة أشهر من الحمل. إن الحكم الفقهي يجب أن يكون الأكثر احتياطا في العديد من الأمور فكيف الحال في التعامل مع النفس البشرية (الجنين البشري) الذي اتفقت الأنظمة والقوانين الدولية على الحفاظ عليه منذ أن يبدأ أو يتكون كبويضة مخصبة ويتعلق بعد ذلك في جدار الرحم ويتوارى بعيدا في أعماق رحم أمه كي لا يطاله عبث البشر ويحتفظ في حقه في الحياة، ثم يكون هناك من يفتي بجواز الإجهاض خلال الأربعة شهور الأولى من الحمل من غير أي داع أو سبب مرضي أو خطير على الأم، وهناك فرق بين الإجهاض المسبب والذي يقر فيه الأطباء بأن حياة الأم ببقاء جنينها يمثل خطرا عليها فعندها قد يجب الإجهاض وليس فقط يجوز ولكن اعتبار أربعة الأشهر الأولى محلا لجواز الإجهاض بدون سبب فإن فيه إزهاقا لنفس بريئة قد وهبها الله حق الحياة والإسلام جاء يحافظ على الأجنة في مهدها لا ليجهض عليها بدون سبب لأن المؤكد أن الجنين قبل أربعة أشهر له جسم ونفس، والنفس هي المعنية بحق الحياة وليست الروح فقط فبالتالي إجهاض النفس سواء حملت بداخلها الروح أم لا فإنه لا يجوز إجهاضها. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 120 مسافة ثم الرسالة