حينما يبدأ خادم الحرمين الشريفين أيده الله أمره الملكي الكريم رقم أ / 66 وتاريخ 26 / 5 / 1431ه بشأن فاجعة سيول جدة بقول الحق جل جلاله «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا» وقول النبي صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» هو في الحقيقة يذكرنا ويذكر كل من قبل أو حتى سعى وحارب لتقلد منصب في هذه البلاد بأن مع هذه المناصب والمسؤوليات أمانة أشفقت الجبال من حملها وحملها الإنسان طمعا بالاستفادة من مردودها المادي دون تفكير أو حتى خوف من الله في بعض الأحيان. وخادم الحرمين حينما يصدر أمره الكريم بهذه الآية التي تقشعر من وقعها الأبدان التي تحركها أرواح طاهرة مؤمنة، يضع المنهج القرآني صوب عينيه، ويذكر كل من يتصدى لأمر من أمور المسلمين بأن ما يوضع تحت يده من الأمر في أي موقع من مواقع المسؤولية هو أمانة لا بد أن تؤدى. وبإحالة جميع المتهمين في هذه القضية إلى هيئة الرقابة والتحقيق وهيئة التحقيق والادعاء العام كل فيما يخصه بعد استكمال قضاياهم من جهة الضبط الجنائي استنادا للمواد (24 ، 27، 28) من نظام الإجراءات الجزائية وذلك للتحقيق فيها واستكمال الإجراءات النظامية بحقهم، واستكمال التحقيق مع بقية من وردت أسماؤهم في التقرير أو المطلوب سماع أقوالهم أو من يتطلب التحقيق استدعاءه في فاجعة سيول جدة وذلك من قبل الجهات المختصة في وزارة الداخلية، فإنه يرسي قواعد التعامل مع من يثبت عليه التقصير والتفريط في حفظ الأمانة، ويحدد القنوات التنظيمية والتشريعية للتعامل معه ولا يتركها للجان الوزارية والأهواء المختلفة. والله كم كنا بحاجة لمن يذكرنا بهذه الآية العظيمة، وما أروع أن يذكرنا بها من يحمل أمانة الأمة بأسرها بل ويتخذ منها قاعدة صلبة لانطلاقة جديدة نحو الإصلاح وتعديل مسارات طال انتظار تعديلها. وخادم الحرمين بأمره هذا يقرر على الملأ أن لا أحد فوق الشريعة والنظام وأن الجميع سواء أمام العدالة. وتبقى الخطوات العملية في التصدي للمأساة فتوكل للوزارة المسؤولة عن البلديات بشكل مباشر لا من خلال البلديات المحلية، وعلى مستوى المملكة كلها لا على مستوى مدينة جدة المنكوبة وحدها. أما على مستوى جدة فإن فتح قنوات تصريف السيول الثلاث حتى مصاب الأودية شرقا وتمديد القناة الشرقية لتصب في شرم أبحر الذي تم سد مدخله أيام الغفلة بسور لم يتسبب في حرمان الناس من الاستمتاع حتى بمجرد رؤية وأكمل تحويله إلى بحيرة استثمارية خاصة فحسب، بل حال بين (وادي الكراع) وبين تصريف سيوله في مصبه التاريخي المعهود. والأسوأ من ذلك أن الوادي نفسه أصبح مأهولا منذ أيام الغفلة تلك بمخططات سكنية تتحول إلى برك من المياه الآسنة في مواسم الأمطار. ولم يكن مصير وادي قوس ووادي جدة وغيرها من الوديان التي كانت تصرف سيولها في بحر المدينة العريقة بأفضل من مصير وادي الكراع. وكل أبناء جيلي يذكرون – أيام الإعدادية – موسم أمطار 1386 ه إذا لم تخن الذاكرة – حينما اتصلت السماء بالأرض بماء منهمر لا ينقطع لمدة ثلاثة أيام متتالية وليس مجرد رشة من سحابة عابرة كالتي تسببت في الكارثة، وحينها تحولت هذه الوديان إلى جداول جميلة تجري بالماء العذب لعدة أيام لتصبح مزارا للمتنزهين ومحبي الجمال. لم تكن وديان جدة تشكل على أهلها أية خطورة تذكر عبر تاريخها بل كان بحرها النظيف الجميل يفتح صدره لاستقبال مياهها فيستمتع الناس بجريانها وينتعشون من نسماتها، ولذلك نص الأمر الملكي الكريم على أن تتولى إمارة منطقة مكةالمكرمة ووزارة الشؤون البلدية والقروية إزالة جميع العوائق أمام جميع العبارات والجسور القائمة وتحرير مجاري السيول إما بقنوات مفتوحة أو قنوات مغطاة، للتخفيف قدر المستطاع من مخاطر السيول وإعادة مجاريها إلى سابق عهدها. ولا يترك الأمر الملكي الكريم أية ثغرة للاجتهاد في التعامل مع المخاطر التي تحيط بمدينة جدة وبمسبباتها فقد أوكل لوزارة المياه والكهرباء معالجة وضع بحيرة الصرف الصحي والعمل على التخلص منها نهائيا خلال عام من تاريخه، وأوقف تطبيق المنح والبيع والتعويض وحجج الاستحكام على الأراضي الواقعة في مجاري السيول وبطون الأودية. ومن ضمن الإجراءات والتنظيمات الوقائية التي نص عليها الأمر الملكي لضمان منع تكرار ما جرى، توجيه وزارة العدل بالعمل على استصدار نظام متكامل للتوثيق يشمل الشروط اللازمة في كتاب العدل وبقية الموثقين وتحديد اختصاصاتهم ومسؤولياتهم وإجراءات عملهم وطريقة محاسبتهم والعقوبات عن مخالفاتهم، وذلك لمنع ازدواجية الملكية على العقار الواحد بعدة صكوك ولإيقاف التلاعب الذي يلجأ إليه ضعاف النفوس في ممتلكات الناس متسلحين بقوة النظام والمنصب، في حين أن النظام ومن وضعه منهم براء وفي هذا الأمر الكريم براءة رسمية تضع وزارة العدل أمام مسؤولياتها وتحملها الأمانة التي قبلت بحملها. وتبقى النقطة التي تعرضنا لها كثيرا في مقالات كثيرة سابقة والمتمثلة في غموض نظام منح الأراضي وأساليب تطبيقها حيث نص الأمر الملكي الكريم على قيام كل من وزارة العدل ووزارة الشؤون البلدية والقروية بالتنسيق حيال (إصدار نظام) ينظم تملك ومنح العقارات لتلافي السلبيات السابقة والتي أدت إلى التعدي على الأراضي والتملك بطرق غير مشروعة بالمخالفة للأنظمة والتعليمات. أما الأحياء العشوائية التي ظهرت في فترة الغفلة شرق الخط السريع فقد أعطاها الأمر الملكي الكريم أولوية قصوى على ما عداها من مشاريع تطوير للأحياء وأوكل أمرها إلى (اللجنة الوزارية المعنية بمعالجة وتطوير الأحياء العشوائية) وذلك للإشراف على إعداد وتنفيذ مخطط جديد شامل ومتكامل لشرق محافظة جدة وتقوم وزارة الشؤون البلدية والقروية وأمانة محافظة جدة بإعداد المخطط واعتماده وتنفيذه. وكل هذا سيكون محل متابعة وتمحيص ومساءلة من وزارة الداخلية التي يقف على رأسها النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء الأمير نايف بن عبدالعزيز والتي وجهها خادم الحرمين الشريفين بإدراج جرائم الفساد المالي والإداري ضمن الجرائم التي لا يشملها العفو الوارد في ضوء التعليمات والأوامر والتنظيمات المتعلقة بمكافحة الفساد، بمعنى أن أي فاسد أو صاحب ذمة واسعة لا يمكن أن يستند على العفو الملكي بعد اليوم في الهروب من جريمته، فالعفو يشمل من يتعرض لعوائد الزمن دون قصد أو نية وقيادة هذه البلاد الرشيدة أولى بمواطنيها الذين يخطئون، ولكن من يتعمدون الإفساد والإثراء غير المشروع فلا يستحقون عفواً ولا رحمة. ويبقى أن نلاحظ أن الحلول في الأمر الملكي الكريم لم تكن جزئية أو مبتورة ولم تعالج ناحية وتغفل عن أخرى بل كانت شاملة وجذرية وموقوتة بجداول زمنية لتقليل المخاطر، ولا تقتصر على مدينة جدة فحسب بل تتعداها إلى كافة مناطق المملكة ومدنها التي تعاني من نفس المشاكل. وكل هذا سيسهم بلا شك في تصحيح المسار وإرساء قواعد ثابتة لانطلاقة تنموية جديدة وفعالة ويشكل منعطفا جديداً في الإصلاح الذي يقوده خادم الحرمين أيده الله منذ توليه أمر هذه البلاد وسيقود بإذن الله إلى تكريس المصداقية والشفافية في عمل وأداء الهيئات الحكومية المتعاملة مع الشأن العام والأمور الحياتية اليومية للمواطنين. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة