أنا بنت الرياض! تغذيت من نسائمها وريح ترابها قبل أن ترى عيناي في الخريطة مدنا أخرى غيرها! وقبل أن تسافر بي الظروف إلى شرقها وغربها!! وكل واحد منكم أيها القراء الأفاضل مثلي له في مسقط رأسه تاريخ وحياة .. وقصة عمر! وجذور وذكريات! الرياض هي أول مصافحة لي مع الوجود، وهي الحضن الأول الذي ارتميت فيه واستندت عليه ونشأت بين جنباته وتأقلمت مع مناخه إن كان بردا قارسا أو صيفا لاذعا! أعرف تفاصيل محبوبتي الرياض في حناياي كما أعرف تفاصيل النقطة والفاصلة .. في الجملة المفيدة! فما كنت أحسب وأنا طفلة أن هناك في الأرض الوسيعة مدنا غيرها ولا فيه أجمل منها ولا توجد عوالم أخرى تشاركها حق التنفس في الحياة! وكبرت .. وكبرت الرياض في داخلي ومن حولي! وكلكم مثلي وأنا مثلكم! قد تختلف أسماء المدن والقرى التي نشأنا فيها ولكننا لم نأت في فراغ ولم نكبر في فراغ ولم نصل إلى ما وصلنا إليه من فراغ! كلنا لنا مكان خرجنا منه وهذا المكان هو «الرحم» البديل لأرحام أمهاتنا الغاليات. والمؤسف أن الذي يجري في واقعنا حاليا مختلف جدا عن طبيعة هذه الأمور وعن الطبيعة الفطرية للإنسان السوي!! ومختلف جدا عما في دواخلنا! وبدلا من أن نكون واقعيين صرنا نريد إثبات أننا (مثاليين) فوق الشبهات! وهذا خلط واضح نقع فيه كل يوم رغم أننا في غنى عنه لو تقبلنا أنفسنا كما هي بطبيعتها البشرية وما نحن إلا بشر لسنا حجرا ولا ملائكة! فمثلا من الملاحظ أن فرط الحذر من اتهامنا بالتعصب والتحيز والتحزب وضيق الأفق أدى بنا إلى حجب مشاعرنا تجاه مسقط الرأس أو مدينة النشأة والميلاد! أدى بنا إلى التخوف من إعلان ارتباطنا الجذري بمكان النشأة والميلاد حتى لا يتهمنا أحد في صفاء وطنيتنا وصدق انتمائنا لكل الوطن بشماله وجنوبه وغربه وشرقه! فلو قلت أنا بنت الرياض قالوا هيه ما لهذه تفاخر وتمارس التعصب المنبوذ ولماذا لا تقول أنا بنت السعودية إن كانت حقا وطنية! وقد يخرج آخرون يلقون الخطب والمواعظ أن بعض من يكتبون في الصحف يجرون الناس إلى التعصب والعصبية المناطقية! أما لو قلت أنا من نجد فهذا يعني عندهم أني قلت شططا وارتكبت إثما وأوغلت في تحدي مشاعر القراء الكرام وأعلنت حربا ضد الوحدة الوطنية وضد الانتماء للوطن الواحد! إنهم مرضى العصر الذين يريدون إثبات تحضرهم وعصريتهم على حساب صدقهم ومشاعرهم وعقلانيتهم وواقعيتهم .. هذا بيتك كله غال عليك لكن لك فيه حجرة خاصة هي مستودع أسرارك وملجؤك عند اللزوم فإذا كنت تحبها هل يعني ذلك أنك لا تحب بيتك كله، هل يعني ذلك أن تتمنى للحجرات الأخرى الحريق أو الدمار! وهذا هو الوطن أجزاء .. جزء منه لنا فيه مكان وعنوان نحبه ولا يهون حب الأجزاء الأخرى.. لقد خسرنا بهذا التخوف والحذر الكثير .. لكنني أعلنها في حب الرياض.. بقية غدا أكملها!