كانت الساعة تشير للثانية صباحا، فكنت في مهجعي أغالب الضجر لعلي أستريح من عناء يوم شاق. إلا أن الصوت القريب مني، دفعني فضولي إليه لمعرفة موقعه، فكان يثير الشجن وهو المنبعث من راديو يجلجل في هدأة الليل، وكلما تناهى لمسمعي تأوهات عذوبة الصوت الغنائي، وجمال الأغنية (هو صحيح الهوى غلاب) للراحلة كوكب الشرق، يخترق أجواء المكان، أرهف السمع إليه، وأقف مستشرفا موقعه عبر نافذة مطلة على الحقل الزراعي. بدأت الصورة جلية حينما أبصرت ذلك الحارس الفلاح الذي يجلس لجوار موقد النار، وهو يكفكف الجمر حول إبريق الشاي. اعتزمت المسير لهذا الرجل، وليكن أنيسي في هذه الليلة الموحشة في صعيد مصر القبلي، أو كما يسميه الكاتب الراحل محمد مستجاب، «الصعيد الجواني». وعلى إيقاع الصوت ووهج سناء النار الضئيل المدفون فيه إبريق الشاي.. فتحت باب الدار الخشبي المؤدي لفناء الدار، فأحدث أزيزا جعل الحارس القابع في مكانه يقف منتصبا في محاولة منه لاستشراف الصوت. كنت أتلمس طريقي إليه بين أشجار قصب السكر الذي كان يلامس وجهي، وأزيحه بيدي، وبين شجرة وأخرى تعتري طريقي، وعلى صوت حفيف الشجر، تنبه الرجل أن هناك من هو قادم إليه، فقد أوجس خيفة، فأبصرته يحنو قامته لكي يلتقط بندقيته، فتسمرت قدماي في مكاني، وأسمعته السلام عن بعد، وهو لم يتمكن من رؤيتي، فاطمأن ذلك الاطمئنان المشوب بالحذر، فتقدمت إليه بوضوح، وقلت: «ضيف»، فرد بصعيديته المميزة: «يا مرحب»، مكررة. جلست إليه والتفت ناحية الراديو، الذي كان يلعلع، وقد أخفض الصوت.. فلا داعي للخوف، وفي كرم منه ناولني كأسا من الشاي، الذي تبين لي لونه بالكاد على وهج النار، حينما زاد من إضرامها في حيلة منه لإيضاح معالم وجهي. رأيتها فرصة لإيضاح لون الشاي الأسود.. فالأخوة الصعايدة لا يطيب لهم الشاي ما لم يكن ربع الكوب مليئا بورق الشاي مع زيادة السكر. الباشا محمود حين عرف أني لست مصريا من واقع لهجتي، سألني هكذا «هو أنت من فين؟»، قلت: «من السعودية، وضيف عند جاركم». قال: «الباشا». قلت: «لا أعرف إن كان بيك أو باشا، أعرف أنه الأستاذ محمود». قال: «لا يا حاج ده باشا ابن باشا..». فكدت أتفوه ببعض الكلم، لكن أسريت ذلك في نفسي وضحكت، لأنني أعرف صاحبي البعيد كل البعد عن البكوية والباشاوية والمحسوبية، فهو مواطن مصري كون علمه بجهده وعرقه وفق عصامية منقطعة النظير، حتى نال شهادته الثرية بعلومه الصحية، الموازية لثقافته الأدبية. الأمر الذي لفت نظري في لقائي بالحارس أنه يتمتع بلغة راقية، ذات لكنة صعيدية في «مط» بعض الكلمات.. وهو الذي لم يكن يقصر عمله على الحراسة، بل تعداه لما هو أكبر وأفضل وأسمى من ذلك لدراسة أعمال الكتاب وحفظ أعمالهم، فهو وأن لم يكن يحظى بنصيب من تعليم عال، ومبكر فدراسته لم تتعد الإعدادية، لكنه ثقف نفسه بنفسه. روايات محفوظ حقيقة احترت في أمره، ولم أصدقه بداية حين حدثني عن أغاني أم كلثوم، وملحني تلك الأغاني وكتابها، حتى أخذ يحدثني عن المسرح، وكتابه، وعن القصة والرواية، وسرد علي مجموعة من روايات نجيب محفوظ: (القطط السمان) و(ميرمار) و(أولاد حارتنا)، وكيف كتبها وبمن يعني بها، وعن الحكيم وخوفه من عبد الناصر، فألف كتابه عن الثورة (عودة الروح)، وعندما مات عبد الناصر، زال خوف الحكيم، ثم ألف كتاب (عودة الوعي) ناقضا به كلامه في كتابه الأول. ويضحك بعمق على الحكيم. وهو يقول: «كان الحكيم مرعوبا من عبد الناصر». وتكلم عن يوسف السباعي وثروت أباظة وغيرهما. لم تكن هي السهرة الوحيدة مع الحارس الفلاح المثقف، بل امتدت لثلاث ليال، كانت بمثابة الندوة الثقافية الشهية، المغرية في نبش هذه الذاكرة الزاخرة التي فاقت بعمرها 70 عاما؛ محصلة تجارب في الحياة من عامل أسيق سخرة وظلما ليعمل في الواحات مع عمال «التراحيل»، لكنه عاد فاستعاد أملاك عائلته، بعد أن فكت عملية (التأميم للممتلكات الخاصة)، لكنه ذاق صلف العيش ومرارة الحرمان، وقسوة الحياة في زمهرير الشتاء القارس، وحرارة الشمس المحرقة التي خلفت نتوءات وتجاعيد على بشرته.. فقد خرج من كل هذه المشاكل كما يخرج طائر الفينيق من بين الركام، ويتحدث بطلاقة عن الثقافة والسياسة، ورموزها، ويثني على الكثير منهم، وأنحى باللائمة على سيرة القليل منهم، الذين تعاملوا مع الاستعمار الإنجليزي في بلدهم حسب انطباعاته القرائية عنهم.