السؤال المركزي المثار هنا: ما هو موقع ودور الخطاب الثقافي والمسألة الثقافية بمكوناتها وعناصرها ومسارها وتناقضاتها ضمن النسق الاجتماعي وسياقات التنمية بأبعادها المختلفة في بلادنا؟، إذ لا ثقافة خارج المجتمع في تحولاته وتبدلاته البنيوية الموضوعية بفعل العوامل والتأثيرات والتفاعلات والتطورات الداخلية والخارجية المتنوعة. فهنالك دائما علاقة جدلية مترابطة ومتبادلة يتحدد من خلالها موقع ودور البنية الثقافية وتفاعلها مع المكونات والعوامل الاجتماعية الأخرى، فالحديث عن أزمة الثقافة العربية ومن ضمنها ثقافتنا المحلية يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن الأزمة البنيوية العميقة للواقع العربي العام بمستوياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الذي أفرز ثقافته وفكره المأزوم، فهنالك تداخل بين أزمة الثقافة وثقافة الأزمة، فالإشكالية هنا ليست في تأزم الواقع العربي فقط بل إن البديل أو البدائل المختلفة هي أما مأزومة، لكونها سببا وعاملا مهما بفعل سياساتها وممارساتها السابقة والحالية في تخليق الأزمة المركبة واستمرارها وتفاقمها، أو لكونها نتاجا وتمظهرا فاقعا لها، التي باتت تشمل الجميع. الثقافة العربية السائدة لا تزال أسيرة نمطين وشكلين من الثقافة وإن بديا أنهما متعارضان من حيث المنطلقات إلا أنهما يلتقيان عند جذر واحد هو تعطيل وتجميد الإبداع والمعرفة والفكر وشل القدرة على التغيير والتجاوز والتجديد. فالثقافة المستمدة عناصرها من إعادة إنتاج ثقافة ماضوية (تقليدية) فقط مطبوعة بطابع التقليد والنقل والتلقين هي ثقافة ترى النموذج في إعادة استحضار الماضي المزدهر التليد في الحاضر البائس والتعيس بغض النظر عن الفاصلة الزمنية الممتدة وظروف هذا الحاضر ومتغيراته وتناقضاته والعوامل التي تحكم تطوره، وهنالك الثقافة التي تستمد عناصرها من المراكز الثقافية العالمية (الغربية) وسعت إلى فرض وإسقاط المفاهيم والنظريات الغربية بغض النظر عن علميتها وصحتها بصورة تعسفية ودون أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف والمسار المختلف لتطور البلدان والمجتمعات العربية، وبالتالي ظلت أسيرة العزلة والاغتراب وهامشية التأثير في الواقع الموصوف بالتخلف والأمية والفقر والتبعية والاستبداد. في الحالتين تسود ثقافة التقليد والنقل والمحاكاة، ثقافة إعادة إنتاج التخلف والتبعية، وتحويل التراث والثقافة العربية إلى مجرد (فلكلور) ثقافي / اجتماعي ينحصر في المناسبات الرسمية والشعبية. الخطاب الثقافي لا يقنع بالسؤال عن ما كان فقط وإلا اقتصر على نقل وفرض ما كان في الماضي بجوانبه المضيئة والمعتمة (وهو السائد) تحت حجة المحافظة على الدين والقيم والأخلاق. هل علينا أن نقنع بما كان في الماضي أم بما ينبغي أن يكون في الحاضر، ووصل الحي بالحي وليس أحياء الميت لإماتة الحي فينا. لا بديل عن نظرة نقدية وعلمية وموضوعية لمجمل تراثنا الثقافي والحضاري، فليس الماضي مقدسا ومنزها بكليته وليس الحاضر كافرا وموبوءا برمته أيضا. باستثناء النص الأساس (القرآن الكريم) وما هو ثابت وقطعي الدلالة في السنة والسيرة النبوية، ليس هنالك شيء مقدس ومتعال وأبدي وخالد، وهو ما يتطلب التفريق بين جوهر وأصول الدين المقدس وبين الفكر الديني (الأرضي) الذي هو اجتهاد بشري قابل للصواب والخطأ والتجاوز. وهو ما أجمع عليه العديد من كبار العلماء والفقهاء المسلمين القدماء منهم والمعاصرين على حد سواء، وهو ما يفصح عن رحابة الإسلام وانفتاحه (في عصوره الزاهية) من خلال تعدد القراءات والاجتهادات وتنوع المذاهب والتفسيرات والفتاوى الفقهية، ولم يستنكف العلماء المسلمون الأقدمون من التفاعل مع ثقافات وعلوم وحضارات (سابقة ومجايلة) مختلفة ومتنوعة، من خلال النقل والترجمة ثم عبر الإضافة والتجديد والابتكار والتجاوز والتي تمثلت في الحضارة العربية الإسلامية التي وصل تأثيرها معظم أرجاء العالم القديم. هذا التفاعل والتلاقح والمثاقفة من منطلق الندية الحضارية والخصوصية الثقافية استمر وأثمر ذلك المجد الزاهر في مجالات الحضارة بجوانبها العلمية والفكرية والأدبية المختلفة، قبل أن تسود عصور الانحطاط والظلام والجهل وهيمنة ثقافة القمع والاستبداد وتصدر فقهاء السلاطين ورجال الكهنوت الديني لتفسير وتأويل الدين والشريعة وفقا للأهواء والمصالح. هنالك حاجة ملحة إلى إحداث قطيعة معرفية مع تلك الجوانب والمفاهيم والأفكار المعتمة التي لم تعد تتواءم وتستجب (بل تعيق) مع متطلبات وتحديات الحاضر والمستقبل. وفي هذا الإطار من الضروري الإشارة إلى زيف اصطناع التعارضات والانقسامات والمقابلات الثنائية العقيمة التي من شأنها استمرار تشظي الهوية الوطنية وانشطارها بين القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، الوافد والمحلي، الوطني والقومي، الأنا والآخر. وهي مواجهات ملتبسة وخاسرة من شأنها إحداث مزيد من البلبلة والتشويش والإعاقات ولن يكون بمقدورها تعميق رؤيتنا لجذر الأزمة الطاحنة والشاملة، التي يعيشها العالم العربي والتي تعود في جانب منها إلى الفشل الذريع في التوليف والتركيب الإبداعي للعناصر المكونة للثقافة العربية المعاصرة بإرثها وتراثها وإنجازاتها الحضارية التاريخية من جهة وميراث وإنجازات الثقافة والحضارة الإنسانية المعاصرة ككل. منتدى الثلاثاء الثقافي في محافظة القطيف والذي كرم مع مجموعة من المنتديات الثقافية الأهلية في المملكة من قبل وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة ضمن فعاليات معرض الرياض الأخير، والذي أكمل عامه العاشر أخيرا يمثل حالة متقدمة من حيث تنوع وتميز نشاطاته وفعالياته الثقافية والفكرية والإبداعية والاجتماعية، وتوجهه نحو ترسيخ الوعي العام وإرساء تقاليد الحوار والتسامح والقبول بالآخر من خلال احترام التعددية الاجتماعية والمناطقية والمذهبية والثقافية والفكرية لكافة مكونات بلادنا. كل التقدير والحب والاحترام للصديق العزيز الأستاذ جعفر الشايب (أبو هادي) رئيس المجلس البلدي المنتخب (ولكل العاملين معه) على رعايته للمنتدى الذي لم يكن ليستمر بهذا الزخم طوال هذه السنوات لولا سجاياه وميزاته الشخصية الخيرة، وملكاته الثقافية والحقوقية المدنية المنفتحة والمتفاعلة بدون حدود مع الآخر، والتي انعكست في فلسفة وتوجهات المنتدى الثقافي العتيد.