حين كانت جولات العمل الصحفي تأخذني لقرى غارقة في الفقر والحاجة لأدنى متطلبات الحياة كنت أتفهم أن يطالب سكان تلك القرى بمستوصف يعالجون فيه مرضاهم ومدرسة يتعلم فيها أبناؤهم وتيار كهربائي ينير ضوؤه ليلهم الدامس، غير أني لم أكن قادرا على أن أتفهم أن يطالبوا بشرشورة تتولى غسل موتاهم وحفار للقبور ينوب عنهم في حفر مقابر من يتوفى منهم. كنت أوشك أن أقول إن قرية يعجز أهلها عن غسل ميتهم وحفر قبور لمن يرحل منهم هي قرية لا تستحق أن يبنى فيها مستوصف أو تفتح فيها مدرسة أو يوصل إليها تيار كهربائي، وكنت أعمد إلى إسقاط مطالبهم بمغسل للموتى وحفار للقبور من تقاريري التي أنشرها في نهاية كل جولة لأني لم أكن أريد أن يشعر أحد أنني أكتب مطالب قرية يبلغ العجز بأهلها أن يبحثوا عمن ينوب عنهم فيما لا يحتاجون أن ينوب عنهم أحد فيه، ولأنني كنت أخشى أن يشاركني المسؤولون ما كنت أبطنه من أن قرية بمثل هذا العجز لا تستحق ما يقدم لها من خدمات. تذكرت ذلك وأنا أقرأ عن تكدس الجنائز في مقبرة صديان، أكبر مقابر حائل، إثر تعطل عمليات حفر القبور وغسل الموتى نتيجة لغياب العاملين اللذين كانا موقوفين رهن التحقيق، مما اضطر الجهات الأمنية إلى الإفراج عنهما مؤقتا ليغسلا الموتى ويحفرا القبور ثم يعودان إلى التوقيف بعد ذلك، وما حدث في حائل يمكن له أن يحدث في أي مدينة أو قرية لو أنها خلت ممن سماهم الخبر المنشور «مختصين في الحفر والغسل». تساءلت عما إذا كان الكسل قد بلغ بالناس مبلغ أن تتكدس الجثث ثم لا يكون بينهم من الشباب أو حتى الكهول من يشمر عن ساعديه ويحفر قبرا لوالد توفي أو أم ماتت أو أخ قضى نحبه في حادث، وأن يبلغ الجهل مداه، ونحن ورثة ما عرف بفترة الصحوة، أن لا يجد أهل الميت من بينهم أو من بين أصدقائهم أو جيرانهم من لا يعرف طريقة غسل الموتى وهو ما كانت عجائز الرويس قادرات عليه وعارفات به. عجز مدينة عن غسل موتاها ودفنهم واضطرارها إلى الإفراج عن عاملين متهمين بالقتل ليقوما بما عجزت عنه المدينة يجعل من حقنا أن نتساءل عما إذا كنا بحاجة إلى الإفراج عن كل المتهمين بالنصب والاحتيال والتزوير وإساءة استخدام السلطة وسرقة المال العام ليقوموا نيابة عنا بما كانوا يقومون به فمدينة تعجز عن دفن الموتى هي أشد عجزا عن رعاية الأحياء. [email protected]