الشك مكانه بين اليقين والجحود، فالذي يشك في أمر، هو لا ينكره ويجحده مطلقا، وأيضا هو لا يقبله ويصدق به على الإطلاق، ومن أراد الانتقال إلى أحد الحالين: (التصديق أو الإنكار)، عليه أن يتحرى وأن يتثبت عن طريق التماس الحق في مظانه، هذه حقيقة ثابتة يدركها كل من نال شيئا من فكر. لكن العامة لا يرون هذه الحقيقة ولا يقرون بها، فالعامة من طبيعتهم أنهم لا يميلون إلى التأمل والتفكير ومتى عرض لهم أمر من الأمور جنحوا إلى أحد حالين، إما تصديقه وقبوله مباشرة بلا أدنى ريبة، وإما إنكاره ورفضه دون أي تردد. فالعامة لا يعترفون بشيء اسمه التشكك، طبيعتهم البسيطة تدفعهم سريعا إلى الميل إلى أحد الجانبين، بل هم عادة يكرهون من يواجههم بالشك فيما صدقوه، وليس نادرا أن تجدهم يبادرون إلى وصف من يبدي ارتيابا في أمر قد صدقوه (بالشكاك)، على اعتبار أن (الشك) صفة سيئة تتضمن سوء الظن، فالعامة يعدون التريث من أجل التفحص والتثبت، من المبالغات التي لا حاجة لها، كما يرونه أمرا مرتبطا بسوء الظن وعدم الطيبة، فالطيب لا ينبغي أن يفترض الكذب أو الخطأ أو الخداع فيما يعرض له، وعليه أن يحسن الظن فيأخذ الأمور على ظواهرها، ما ظهر له منها حسنا أخذه وما ظهر قبيحا رده. كراهية التشكك والإصرار على أن الأمور ليس لها سوى وجه واحد ظاهر، جعل بعض الناس يقع صيدا سهلا في شباك الغشاشين والمخادعين، وذلك بعد أن غابت عنهم دروع الحماية بحجة أن الاحتراز والحذر ما هي إلا مبالغات لا حاجة لها! والغريب أن الجاحظ المعروف بعقلانيته، لم يبعد كثيرا عن هذا الموقف، فالجاحظ لم يقبل الشك المطلق، وفضل أن يقف موقفا وسطا في هذه المسألة، فهو وإن لم ينكر قيمة الشك وأهميته في الحصول على الحقيقة الموثقة، إلا أنه جعل الشك مطلوبا في حالات محددة فقط، أي أنه كان ضد تعميم الشك على كل شيء. ولا أدري كيف فات على الجاحظ أنه حين يكون هناك تخير وانتقاء للحالات التي تستدعي الشك والحالات التي لا تستدعيه، نكون واقعين تحت توجيه العواطف فما أثار لدينا الريبة شككنا به وما استلطفناه وأنسنا به قبلناه وعددناه من الحق الذي لا يستدعي الشك! كيف لنا أن نضمن أن لا يصيبنا الخطأ عند انتقال الحالات المحتاجة إلى الشك فيها؟ كيف لنا أن نعرف أننا لم نهمل أمورا من الحق وضعها في بؤرة الشك لكنا لم نضعها؟ فاكس 4555382-01 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة