أشعر في أحيان كثيرة بأني محتاج لتمزيق كل الأوراق المكتوبة أو محو كل الكلمات المعلقة في الهواء.. هذا الشعور ينتابني عندما تجد رجلا أعمش يقود قافلة في ليلة ممطرة أرسلت سحبها لتشكل المشهد الماطر فلا يجد الأعمش من وصف سوى القول إنها ليلة مظلمة.. يحدث هذا عندما يقف ناقد أو قارىء أمام عمل اهتزت له أعماقك فيصفه جماليات العمل الخاصة بأنها مستمدة من كاتب لاتيني أو أفريقي أو عربي.. هذا العمش اللفظي مرده أن هذا الناقد أو القارىء لم يسبر أغوار المكان، لم يعرف أن المكان لغة واحدة، ولم يعرف أن الأمكنة متشابهة ومتطابقة ولم يعرف أن القانون الرياضي ينص على أن الأشكال المتطابقة هي شكل واحد يكفي أي منها لمنحك مواصفات الشكل المطابق الغائب.. بهذه المعادلة الرياضية البسيطة سنكتشف أن القرية الجنوبية في شبه الجزيرة العربية هي نفس القرية في الأرجنتين أو في الصين، وأن الساحل في بيروت هو نفس الساحل في أستراليا وأن الجبل في غامد هو نفس الجبل في الكانغو.. وتشابه الأمكنة يولد صفات مشتركة وسلوكيات وطباعا وأمزجة متشابهة.. فحزن الرجل التركي هو حزن الهندي القابع في كلكتا، وفرحة حسناء تسير في شارع قابل هو نفس فرحة حسناء تجلس في شرفتها مطلة على شوارع القاهرة.. ومن خلال الروايات السعودية التي قرأناها سنجد أن أبناء القرى يقتربون من تفصيلات معيشية مشتركة، وسنجد أن ابن المدينة يحوم في نفس الفلك الذي سبقه إليه كاتب آخر.. وتصبح التشكلات المكانية تتغير وفق أثر المكان على شخصية الكاتب بمعنى أن الأثر من المكان هو أثر يعمم على جميع الأفراد المنتمين لذلك المكان، وحين الكتابة فإن الكاتب يستجيب لنزعته التكوينية المقابلة لأثر المكان، فالكاتب وعاء مقابل لوعاء المكان، وحين الكتابة يمتزج سائل الكاتب بسائل المكان مخلفين أثرا يختلف في درجة التشكل وليس في جوهر الشكل. والرواية السعودية لم تتعامل مع المكان بالقصدية التي نقف عليها الآن، إن الكاتب موجود داخل الوعاء المكاني ولا ينفصل عنه إلا بقطع الحبل السري وانقطاعه يعني الموت ومدام يركض في أوردة المكان ستظل الحياة بينهما حياة متبادلة حية لكي تواصل الحياة كتابة ملحمتها الرواية بهاتين الشخصيتين مضيفة لهما عنصر الزمان، والزمان جهة ما يقتعد فيها المكان ليخلق تفاصيل أخرى.. سنجد المكان عند نورة الغامدي مكانا حزينا تتشكل فرحته بالتنقلات بين القرية والمدينة ففي المدينة يكتسب فرحة غامرة فمفردة الفرح والحزن تولدت من روح الكاتبة وليس من المكان فهي نقلته وفق كثافته الشعورية المنطلقة منها، وجدة التي تدمي ليلى الجهني هي فرحة عند نورة الغامدي، ونجد التشكلات النفسية للمكان يجرها محمود تراوري عبر مئات الأميال من أدغال أفريقيا لتتحول جدةوالمدينةومكة إلى فضاء نفسي للأثر الأول للمكان، فالعالم الضاج بعوالمه الأفريقية لا يستوعبه الفضاء الساكن في المدينة أو مكة وربما هذا ما يعلل استجلاب لعبة كالمزمار إلى منطقة الحجاز وهي لعبة صاخبة تعتمد على إظهار العادات الأفريقية.. بينما يتحول المكان إلى لوحة تجريدية عند غازي القصيبي في رواية سلمى تتشكل تفاصيله والشعور به من خلال القارىء العارف بالمحطات المكانية التي وقفت بها سلمى، يتشكل وفق ذهنية القارىء وليس كما رسم الراوي، فسلمى فقيرة في وصف المكان تاركة الفترة الزمنية للمكان أن تحدث تشكلاتها في ذهنية المتلقي ليرسم أبعاد المكان وعمقه الدلالي في وجدانه.. تشترك معه رجاء عالم في تجريدية المكان حيث انطلق رجاء في رواية خاتم خلف أثر المكان في قبول الجنس، ليتحول المكان إلى شخصية مسيطرة في إلغاء جنس وتثبيت جنس آخر، بينما نجد رواية الحزام تجسد مشهدية القرية الكونية، القرية المتشابهة في سحرها وفتنتها، فهي قرية تأتي من أقاصي الكون تحمل أزياءها الموحدة هنا وهناك.. وسنجد المكان المغلق في لغط الموتى، والانغلاق ليس ناشىء من مفردة الموتى، بل ناتج من انغلاق المكان وهي إشارة خطيرة لانغلاق الرجل الصحراوي إذا أردنا استرجاع تاريخ الصحراء القائم على الارتحال فحين يأتي منغلقا على نفسه يعني تهشيم جوهرية المكان وبالتالي يعطينا نتيجة بأن انغلاق هذا الكائن هو نتاج انغلاق مكانه وتهشيمه وتصبح نتائج هذا الانغلاق رفض الحياة خارج المكان المستحدث للمكان الأصلي.. ومن هذا المنطلق سنجد أن الأمكنة تم تهشيمها ككيان له مميزاته وتفرده وتحويل الأماكن إلى نمط واحد يقتل الإنسان ويؤدي به إلى رفض الحياة.. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 159 مسافة ثم الرسالة