كارثة السيل في جدة كشفت عن علل في حياتنا العامة، بعضها معروف لكافة الناس وبعضها مجهول عند أكثر الناس. من ذلك مثلا الوضع القانوني لما أطلقت عليه الصحافة «العشوائيات». والمقصود بها الأحياء التي بنيت على خلاف المعايير القانونية أو الهندسية أو البيئية. وقيل خلال الأيام الفائتة إن معظم الأضرار نال الأحياء الواقعة في مجاري السيول، وكان المفترض أن لا يسمح في الأصل بالبناء في هذه المواقع. وجادل زميلنا الأستاذ أنس زاهد بأن هذه ليست عشوائيات. العشوائي في رأيه هو ما يقام خارج إطار القانون، أما الإنشاءات التي تقام بتراخيص رسمية فلا تصنف كعشوائية حتى لو كانت مخالفة للمعايير الفنية المفترضة. هذا على أي حال يستدعي تعريفا دقيقا لما سوف نعتبره في المستقبل عشوائيا أو غير عشوائي. لكنه أيضا يستدعي إعادة النظر في المعايير القانونية التي تنظم إصدار وثائق الملكية ومن بعدها تراخيص البناء. تحدث الأمير خالد الفيصل أيضا عن أراضي الدولة التي جرى الاستيلاء عليها وبيعها. هذا النوع من الوقائع كثير جدا وتعرفه جميع مدن المملكة. لكن الناس جميعا وبينهم مسؤولو البلديات وخفر السواحل يرون التراكتورات تعمل ليل نهار لتحويل غابات القرم التي تزين الشواطئ إلى مخططات سكنية تباع لاحقا بأعلى الأثمان. خليج تاروت على سبيل المثال هو واحد من أبرز المعالم الجغرافية لساحلنا الشرقي، جزء من المشهد البصري الجميل للخليج، هو موطن التوالد الرئيس للأسماك، كما أنه أكبر موقع طبيعي لغابات القرم، وهي أشجار كثيفة دائمة الخضرة تنبت على سواحل البحر وتشكل ملجأ طبيعيا للكائنات البحرية. هذا الخليج الجميل تقلص فعليا وسوف يختفي تماما خلال بضع سنوات رغم الأمر الملكي بحمايته. لا يوجد مبرر وراء هذا العمل سوى الجوع للمال. ولا ندري إذا كان التاجر الذي يقف وراء هذا العمل محتاجا بالفعل إلى الأموال الإضافية التي ستأتي من وراء تدمير البيئة الطبيعية أم لا. لكن المؤكد أنه قد نجح مثل كثيرين غيره في العثور على ثغرة قانونية سمحت له بتحويل مصلحة عامة إلى مصلحة شخصية. قد نسمي هذا استيلاء على الأملاك العامة أو نسميه حيازة قانونية أو أي اسم آخر، لكن خارج الجدل القانوني ثمة حقيقة واحدة وهي أن آلاف الناس الذين اعتادوا كسب عيشهم هنا سوف يخسرون مصدر رزقهم، وأن ملايين الناس الآخرين الذين اعتادوا على الاستمتاع بجمال الشجر والبحر سوف يحرمون من إحدى المتع القليلة في حياتهم. كل ذلك من أجل إضافة أصفار أخرى على الرصيد المالي لشخص واحد أو بضعة أشخاص. ترى هل نعتبر هذا التصرف استيلاء على الأملاك العامة؟ أم نعتبره تدميرا للنظام البيئي؟ وبعبارة أخرى: هل ثمة طريقة لتصنيفه ضمن الممنوعات في القانون؟. لا شك أننا بحاجة إلى توسيع تصورنا لمفهوم العمران وعلاقة الاقتصاد بالبيئة وعلاقة الجغرافيا بالبشر وانعكاس النشاط الاقتصادي والتغيرات الجغرافية على الأخلاق والسلامة النفسية. العمران ليس مجرد شوارع وكتل إسمنتية بل هو في الأساس وضعية إنسانية تدعم السلوك المدني وتعزز الأخلاقيات العامة. لكي يتحول هذا المفهوم إلى واقع فإنه يجب أن ينعكس بشكل واضح في القانون الذي ينظم الملكية والبناء والإنشاء ويحدد ما يجب أن يبقى ملكية عامة وما يجوز تحويله إلى ملكيات شخصية. كما نحتاج إلى وعي اجتماعي عميق بما هو مصلحة عامة مشتركة يحميها كل فرد باعتباره شريكا فيها. وعي المجتمع بكونه المالك الحقيقي للأملاك العامة أو ما نسميه أملاك الدولة، ودوره النشط في حمايتها هو الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون ظهور كوارث أخرى مثل تلك التي شهدناها في جدة. ما نسميه مؤسسات المجتمع المدني ليس منتديات لقضاء وقت الفراغ بل أدوات حقيقية وفعالة لإشراك المجتمع في صيانة المصالح العامة وسد الطريق أمام الجشع المدمر للعمران والبيئة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 109 مسافة ثم الرسالة