كارثة السيول التي تعرضت لها مدينة جدة الأربعاء 8/12/1430ه وألحقت أضرارا في الأنفس والممتلكات، قد تكون بداية لتصحيح العديد من الأوضاع، في مقدمتها الاستعداد للتعامل مع الكوارث من خلال عمل مؤسسي جماعي مبني على أسس علمية وعملية حديثة. إن علم إدارة الكوارث من التطبيقات الإدارية الحديثة في الدول المتقدمة، وتبرز أهمية هذا العلم أكثر في العصر الحاضر الذي يشهد تغيرات متلاحقة وسريعة تنذر بوقوع كوارث طبيعية وغير طبيعية. ونحن في المملكة لدينا مدن صناعية عملاقة لصناعة البتروكيماويات وسواحل بحرية ممتدة على البحر الأحمر والخليج العربي وصحاري واسعة تحيط بكثير من المدن، كما أن الأمطار تهطل بكميات كبيرة جدا خلال فترة زمنية قصيرة، إضافة إلى أن المملكة تشهد تجمعا بشريا كبيرا في موسم الحج والعمرة. كل هذه المعطيات والظروف تحتم ضرورة الاستعداد والتخطيط المسبق المنظم للتنبؤ بالكوارث والتجهيز لمواجهتها، وهذا لن يتأتى إلا بإنشاء هيئة مستقلة لإدارة الكوارث، مرتبطة مباشرة بالقيادة العليا للدولة، تتوفر لها قدرات آلية وكمية بشرية مؤهلة. لأن الكوارث لا يمكن مواجهتها بجهود فردية، وأقرب دليل على ذلك ما حدث أثناء كارثة الأمطار في جدة من ارتباك وارتجالية عند مواجهة الحدث وضعف ملحوظ في مستوى الجاهزية والتنظيم.. وما ذلك إلا نتيجة لغياب التنبؤ والاستعداد والتدريب المسبق «والقيادة الموحدة». وما حدث على أرض الواقع يؤكد ذلك.. حيث إن الأمطار هطلت في صباح يوم الأربعاء وعمليات الإنقاذ والبحث ومواجهة الكارثة بدأت مساء ذلك اليوم.. وبطرق وأساليب عمل لا ترقى إلى مستوى قوة الكارثة، وبقراءة سريعة ومختصرة للمراحل العلمية لإدارة الكوارث نجد أن التعامل مع كارثة السيول في جدة بعيد كل البعد عن نظام إدارة الكارثة والتي يمكن إيجازها كما يلي:- أولا: مرحلة التنبؤ والتخطيط في هذه المرحلة يتم تحديد المخاطر المحتمل وقوعها، والاستعداد لكل الاحتمالات والمتغيرات الطبيعية وغير الطبيعية بخطط متكاملة لمواجهتها، والحد من الأنشطة الارتجالية والعشوائية. ومع التقدم التكنولوجي وانتشار الأقمار الصناعية يجعل من الممكن جدا التنبؤ بحدوث الأمطار وكميتها، إضافة إلى أن الشواهد التي مرت بها مدينة جدة وتراكم السحب في السماء تؤكد مسبقا إمكانية هطول أمطار غزيرة.. ومع كل ذلك لم تقم الجهات المختصة بتحذير المواطنين والمقيمين للابتعاد عن مواقع الخطر.. ولو تم ذلك لكان من الممكن جدا بمشيئة الله التخفيف من حدة الكارثة وأضرارها على الأرواح والممتلكات. ثانيا: مرحلة مواجهة الكارثة تعد هذه المرحلة على درجة كبيرة من الأهمية لتلطيف أو لتخفيف حدة الكارثة.. لأنه يتم خلالها العمل في ظل ظروف غير طبيعية، وإحداث متسارعة يتطلب الموقف التحكم بها لتقليل أضرار الكارثة. ومن أهم الأنشطة التي تتم خلال هذه المرحلة: الإنقاذ، إخلاء المواطنين عن مواقع الخطر، تقديم العون الغذائي، تقديم الخدمات الطبية.. كما أن من العوامل التي يجب أخذها في الاعتبار توفر معلومات دقيقة عن آثار الكارثة، تحديد الأولويات، الاتصال المباشر مع سكان المنطقة المنكوبة لتوعيتهم وإرشادهم، مركز قيادة وسيطرة لتنسيق جهود جميع الجهات المشاركة في مواجهة الكارثة، ويعد الإعلام أداة هامة من أدوات إدارة الأزمة، لذا لابد أن تكون العلاقة بينه وبين الجهات المسؤولة عن مواجهة الكارثة تحظى بدرجة عالية من الأهمية والحيطة والدقة، لأن الإعلام أثناء الكارثة يقوم بمهمتين هما:- 1- متابعة الكارثة وإعلام الجمهور بتطورات الكارثة، ونتائج مواجهتها.. للقضاء على انتشار الشائعات. 2- توعية الجمهور، وحثهم على تقديم المساعدات المطلوبة لمواجهة الكارثة، بطريقة منظمة. ومعظم هذه العوامل لم يؤخذ بها خلال مواجهة كارثة السيول في جدة.. لأن التعامل مع الكارثة بدا متأخرا، وبطريقة عشوائية، واجتهادات فردية غير منظمة مسبقا. فلم يتم إسكان المتضررين إلا بعد يوم من وقوع الكارثة، وكان يطلب من كل المواطنين البحث عن سكن بأنفسهم ومن ثم يتم تعميد صاحب العمارة بتسكينهم، وكان بعض أصحاب الشقق المفروشة يرفض استقبالهم، ناهيك عن تأخر المساعدات الغذائية، والطبية، كما أن عمليات البحث عن الجثث مازالت جارية وهناك مفقودون رغم مرور أسبوعين على وقوع الكارثة. ثالثا: مرحلة إعادة التوازن والبناء هنا تتم إعادة المنطقة التي اجتاحتها الكارثة إلى وضعها السابق أو أفضل منه، وتحديد أولويات للعمل. وهذا الأمر يتطلب الحرص والرغبة على إعادة التوازن لتلك المنطقة، وتوفير الإمكانيات الفنية والمالية والإدارية اللازمة. وبالقياس على كارثة جدة نجد أن هناك تأخيرا في إعادة المناطق المنكوبة إلى وضعها الطبيعي فمازالت بعض الطرق مقفلة، والكهرباء والاتصالات مقطوعة عن عدد كبير من المنازل والمدارس، وليس هناك خطط واضحة ومعلنة توضح متى ستعود الأمور إلى وضعها الطبيعي. رابعا: مرحلة التعلم دائما نجد أن الكارثة تحمل المخاطر والفرص في نفس الوقت.. وبقدر ما تكون نقمة إلا أنها تكون نعمة أحيانا إذا تعلمنا منها الدروس والعبر؛ لتعطينا فرصة لتقييم أوضاعنا ومدى قدرتنا على مواجهة كوارث أخطر في المستقبل، والتعلم من الكارثة لا يعني تبادل الاتهامات وإلقاء اللوم على الغير وتحميلهم المسؤولية. ولعل من أهم نعم هذه الكارثة صدور أمر خادم الحرمين الشريفين بتشكيل لجنة للتحقيق في أسباب الكارثة، ووضع حلول عمليه لتجنب تكرارها في المستقبل، ولعلها بداية خير وجرس إنذار لضرورة إنشاء هيئة مستقلة لإدارة الكوارث في المملكة تتوفر لها كافة الصلاحيات والإمكانيات المادية والبشرية المؤهلة والمدربة ويمكن الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال. وأسال الله أن ينجينا من المحن ما ظهر منها وما بطن. د. رجاء يحيى الشريف أكاديمية متخصصة في إدارة الكوارث