ختم الملك بيان الميزانية بخاتمه الذي كتب عليه: الحرص على عدم إعاقة المشاريع، وتحميل المسؤولية للوزير المختص في حال حدوث قصير. وتاريخيا، فقد بقيت الميزانية العامة السعودية على مدى العقود الأربعة الماضية سحنة تنموية واضحة ترتكز إلى خطط خمسية متتابعة، رغم أن تنفيذ البرنامج التنموي تأثر سلبا وإيجابا بأوضاع الخزانة العامة وبالظروف الإقليمية المحيطة. وفي المرحلة الراهنة وبمؤازرة فائض تراكمي تجاوز 1350 مليار ريال حققته الخزانة على مدى السنوات من 2003. وعليه، فإن الإنفاق العام سعى للمواءمة بين عدة أهداف: • رفع مستوى معيشة الفرد. • الحفاظ على النمو الاقتصادي بزيادة سعة الاقتصاد عبر الاستثمار في محركات التنمية. • سداد مستحقات الماضي من دين. • محاولة تحييد تراجع إيرادات النفط في حال حدوثها عبر بناء احتياطي للدولة. ولعل من المفيد بيان أن إنجاز الهدفين الأخيرين قد استفاد من فائض الميزانية، حيث انخفض الدين العام (حسب البيانات الرسمية) إلى 267 مليار ريال نهاية العام 2007، وإلى 237 مليار ريال في العام 2008 وفيما يخص بناء الاحتياطي العام فقد وصل إلى 200 مليار، حيث خصصت 100 مليار من فائض ميزانية 2006، ومائة أخرى من فائض ميزانية العام 2007. أما فيما يتعلق بالهدف الثاني (الارتقاء بسعة الاقتصاد) فمع صدور ميزانية العام 2008 نجد أن الإنفاق تضاعف تقريبا خلال خمس سنوات؛ من 250 مليار ريال في العام 2003 إلى 443 مليار في العام 2007، وارتفع إلى مستوى قياسي جديد في العام 2008، إذ إن الإنفاق للعام 2008 قدر عند 410 مليارات وتجاوز ذلك الرقم فعليا بنحو 100 مليار ريال. ومن المناسب الإشارة إلى أن نسبا متصاعدة من الإنفاق العام تذهب للإنفاق الاستثماري، حيث لامس الخمسين في المائة في موازنة العام 2009. وليس محل جدل أن إنجاز الهدف الأول (رفع مستوى معيشة الفرد) هو هدف محوري تتفرع منه أهداف، بل يمكن القول إنه هو مبرر الإنفاق المتعاظم على التنمية. وبالتأكيد، فإن رفع مستوى معيشة الفرد يشمل التوفير والتحسين المستمر في مستوى الخدمات التي توفر له، وكذلك تعني الفرص التي تتاح له بما فيها فرص التعليم والتدريب والتأهيل والعمل. ومع كل ذلك تعني الحفاظ (على أقل تقدير) والرفع من مستوى دخله. وهنا، لن يفيد كثيرا تقسيم الناتج المحلي الإجمالي على عدد السكان، فالمتوسط الحسابي يبين جزءا، أما الجزء الآخر فمن الضروري رصده من خلال دراسات مسحية تشمل مدن وبلدات ومراكز وقرى وهجر وطننا الكبير، للتعرف على التفاوت. إذ إن هذا هو لب قضية: استراتيجية الارتقاء بمستوى معيشة المواطن، وأساس التنمية الحضرية والاقليمية المتوازنة، وجوهر السعي لتحقيق الكفاءة في توزيع ثمرات النمو والتنمية لتصل للمواطن في مقره دون أن يتكلف عبء الارتحال للحواضر الكبيرة ليجد الخدمات وفرص العمل والاستثمار. وهكذا يصبح من المبرر القول إن هناك ضرورة لإصدار دليل لمؤشرات التنمية البشرية في التجمعات السكانية في السعودية، طلبا للشفافية وحتى يصبح قياس التنمية المتوازنة أمرا ميسورا، وليصبح أمر تقريب الفجوة قابلا للمقارنة عاما بعد عام. وهكذا تصبح الأهداف المعلنة قابلة للقياس مما يمكن متخذ القرار والمهتم من قياس النتائج من رصد الحصيلة وعدم الاكتفاء بحساب الإنفاق. أما الحفاظ على مستوى حقيقي للدخل فيستوجب في أكثر حالاته بساطة المواءمة بين ذلك الدخل والزيادة في مستوى الأسعار، وهذا يعني أن يحصل الموظف في مختلف القطاعات العامة والخاصة على علاوة غلاء وفقا للزيادة في مؤشر الأسعار الذي تصدره مصلحة الاحصاءات العامة والمعلومات السعودية. وتجدر الاشارة في هذا السياق إلى أن التغير السنوي في مؤشر أسعار المستهلك (CPI) كان قد مكث سنوات في حالة بين حالتين: الانكماش والسبات، حيث انكمش 1.1 في المائة في عام 2000، وكذلك في العام 2001، ليرتفع بنحو 0.2 في المائة في 2002، وبنحو 0.6 في 2003، وتراجع إلى 0.3 في العام 2004 وإلى 0.7 في العام 2005، ثم انطلق من عقاله ليرتفع ارتفاعا ملحوظا بنحو 2.2 في المائة في العام 2006، وبنحو 4.1 في المائة في العام 2007، و9.2 في المائة في العام 2008، ويتوقع ان يتراجع إلى نحو 6 في المائة هذا العام (2009) ولنحو 4.6 للعام المقبل 2010. ومفيد هنا، ونحن في السنة الثالثة والأخيرة من إضافة بدل غلاء معيشة لرواتب موظفي الدولة.. من المفيد تقنين بدل غلاء المعيشة ليصبح بدلا راتبا يحدد قيمته متوسط نمو الاسعار في السنة السابقة. أما افتراض أن هذه هي السنة الثالثة والأخيرة وأن البلاد بحاجة إلى موجة غلاء عارم حتى يعاد العمل بها فهذا أمر قد يعوزه التأمل.. لا سيما أن أحد مرتكزات الإنفاق والتنمية تتمحور حول الارتقاء بمعيشة الفرد. وكما ندرك جميعا فإن الغلاء في حال حدوثه هو ينخر في قدرة الفرد على الإنفاق، وهذا أمر لا يتسق مع مطلب التنمية. عاما الأزمة: 2008 و2009 ولا بد من الإقرار أن العامين هذا والذي سبقه سيحظيان بمكانة خاصة في الذاكرة الاقتصادية، إذ كان تأثير الإرهاصات الاقتصادية حادا بالفعل، فأخذت الكثير من الدول وحكوماتها وأجهزتها الرقابية والتنظيمية ومنشآت الأعمال بعيدا عن أي تصور، فأخذنا نجد دولا تبحث عن ذواتها الاقتصادية من جديد. وبلدنا، بالتأكيد، لا يمكن أن يكون خارج المنظومة الدولية، وليس بوسعه أن يفلت تماما مما حاق بالعالم جراء الأزمة العالمية.. ومع ذلك لا بد من الإقرار أن قرار الحكومة كان واضحا فيما يتعلق بعدد من القضايا الجوهرية ذات الصلة بالأزمة؛ فقد ذهبت السعودية إلى قمة العشرين الأولى التي عقدت في لندن جاهزة بحقيبة لحفز الاقتصاد عبر ما أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين في خطابه هناك من أن المملكة ستطلق برنامجا تنمويا على مدى خمس سنوات تقدر تكاليفه بنحو 400 مليار دولار، كما أن المملكة عارضت هناك فكرة «تدويل» معالجة الأزمة، واستبسلت في الدفاع عن فكرة أن كل حكومة تتولى أمر بلدها، وسيكون ذلك كافيا إذا ما كان مصحوبا بقدر مناسب من التنسيق بين الدول المؤثرة. وكانت رسالة الحكومة السعودية واضحة بعد ذلك بأيام قليلة عندما أعلنت موازنة تحوي أعلى مستوى من الإنفاق منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة، بمصروفات تقديرية قدرها 475 مليار ريال للعام 2009، بزيادة بنحو 16 في المائة عن الإنفاق العام المقدر في العام الفائت. ورغم أن هناك نقاشا محتدما حول قضية: «هل تصل هذه الأموال للمواطن؟» بمعنى هل ما ينفق من مال يحقق مستويات أعلى من المعيشة للمواطن السعودي؟ وعلى الرغم من وجاهة السؤال الذي أرجو أن تملك وزارة الاقتصاد والتخطيط الإجابة الرقمية والتحليلية عليه، إلا أن السعي لتحقيق ذلك يمكن تلمسه من خلال نقاط، منها: ارتفاع معدل إنجاز بعض المنشآت الضرورية التي طال انتظارها وفدح نقصها مثل المدارس، والتي تستلم وزارة التربية والتعليم حاليا ما متوسطه مدرستان. الأمر الآخر إطلاق برامج ترتكز حول تنمية الموارد البشرية المحلية من برامج ابتعاث ومضاعفة عدد الجامعات ثلاث مرات، وإطلاق مجموعة من مشاريع «بناء السعة» بما في ذلك مشاريع البنية التحتية على تنوعها. وهكذا، نجد أننا بحاجة إلى دراسة تحليلية تبين انعكاس الإنفاق على مستوى معيشة المواطن تحقيقا للتنمية المتوازنة التي دعت لها الخطة الخمسية الثامنة بجلاء ووضوح، لكن ومع ذلك فإن هناك تطورا نوعيا في الإنفاق الحكومي خلال سنوات الخطة؛ إذ يلاحظ أن الإنفاق ارتكز على محاور رئيسية: • الإنفاق على رواتب ومزايا الموظفين الحكوميين، وهذا بند يلتهم ما يزيد على 180 مليار ريال. • الإنفاق على البنية التحتية والمشاريع ذات الصلة بتنمية الإنسان، وهنا نجد أن الإنفاق الاستثماري أخذ يتصاعد فتضاعف عدة مرات خلال سنوات الخطة، حيث وصل ما رصد للمشاريع في موازنة العام المالي 2009 إلى 225، أي ما يمثل 48 في المائة، وهذا رقم ملفت مرتفعا من 165 مليار ريال في العام الذي سبقه (2008) أو ما مثل 41 في المائة من الإنفاق التقديري لذلك العام. إذن، تعاملت الحكومة مع الأزمة بأن رفعت الإنفاق بوتيرة عالية، ووجهت جزءا متزايدا من ذلك الإنفاق إلى المشاريع، وبذلك نحت نحو الإنفاق الاستثماري. وهذا بالتأكيد إصلاح نوعي من الضروري استمراره، خصوصا بعد فترة تقلص فيها الإنفاق الاستثماري لمستويات منخفضة اضطرت الحكومة معها إلى استئجار المدارس واكتظت فيها المستشفيات. وحاليا، فإن مقارنة ما تنفقه الحكومة السعودية استثماريا مع ينفق في العديد من اقتصادات العالم بما في ذلك مجموعة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نجد أن المقارنة تتجه في السنوات الأخيرة للسعودية انطلاقا بسبب كثافة الإنفاق الاستثماري. ولعل من المناسب بيان أن التعامل مع الأزمة جلب مستجدات خدمت دون شك الأجندة المحلية، منها تخفيف الضغوط التضخمية التي كانت مسيطرة على المشهد الاقتصادي الاجتماعي في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي والتي كانت معالجتها من خلال تقديم الإعانات بأشكال ونكهات متعددة، كما أن الأزمة ساعدت في جلب زرافات من المستثمرين الأجانب، هروبا من الانكماش والكساد الاقتصادي في بلدانهم إلى منطقتنا والتي هي من بين الأكثر «إخضرارا» في العالم، وبالفعل فقد ارتفع ما تستقطبه السعودية من استثمارات أجنبية مباشرة في العام 2008 (آخر عام متاحة بياناته) إلى 38.2 مليار ريال بزيادة تتجاوز 57 في المائة عن العام 2007. وهذا سيعزز استراتيجية التنوع الاقتصادي وسيوجد فرص عمل للعمالة المحلية، كما سيساهم في إيجاد فرص استثمارية لرأس المال المحلي، وكل ذلك سيحسن إنتاجية الاقتصاد المحلي على مستويات متعددة. اقتصادي سعودي