مكوك الفضاء هو دون أي شك أغرب طائرة أنتجتها البشرية .. عند الإقلاع يصعد كالصاروخ بكل صفاته وأنماط طيرانه العجيبة .. تسارعا رهيبا، وزوايا صعود شديدة، وكميات هائلة من الوقود تصل إلى عشرة أطنان في الثانية الواحدة .. تخيل عشرة آلاف كيلوجرام من الوقود في الثانية الواحدة .. ويتطلب تشغيل المحرك الصاروخي أقل من ربع ثانية لإشعال كمية هائلة من الوقود للانطلاق .. وعند العودة من الفضاء يعود المكوك كالطائرة الشراعية دون استخدام محركاته التي يفوق عددها الخمسين .. وبالتحديد فالمكوك يستخدم ثلاثة وخمسين محركا مختلفا أثناء رحلاته، ومن كل هذه المحركات أشدها وأقواها وأكثرها شراسة هما المحركان الصاروخيان الداعمان وطولهما يعادل طول حوالي عشر سيارات «كامري» وقطرهما يعادل طول سيارة «مينى كوبر»، وهناك اثنتان منهما على طرفي المركبة، ويستخدمان وقودا صلبا مكونا من مادة معجونية سريعة الاشتعال، وذات سلوكيات «شرسة» فبعد تشغيلهما لا يمكن التحكم في مقدار قوتهما فهما مثل «طراطيع» العيد .. عند الاشتعال، يوفران مائة في المائة من قوتهما إلى أن ينفد وقودهما .. الشاهد في الموضوع أنهما كانا السبب الرئيس في حادثة المكوك «تشالنجر» الذي انفجر أمام العالم بتاريخ يناير 1986 وفور وقوع الكارثة تكونت لجنتان عليتان إحداهما كونتها رئاسة الجمهورية الأمريكية، والثانية كونها مجلس الشيوخ الأمريكي .. ولكن قبل بداية عمل اللجان كانت التحاليل قد بدأت .. الشركة الفلانية أخطأت .. الجهة الفلانية أهملت .. الطاقم لم يلتزم بالتعليمات .. الصواريخ «خربانة» .. وهكذا .. خضعت الكارثة لمجموعات تحاليل مفادها أن وكالة الفضاء الأمريكية «كروتت» الموضوع حتى قبل أن تشرع اللجان الفنية المتخصصة في تحقيقاتها العلمية .. وفي عام 1977 كانت طائرة البوينج 747 الجامبو التابعة لشركة كاي إل إم الهولندية متأهبة للإقلاع من مطار «تينيريف» الصغير الذي يقع في أكبر جزر الكناري الإسبانية في شرق أفريقيا .. وكانت أرض المطار مليئة بالطائرات، ولكنها كانت أيضا مغطاة بالضباب .. وأطلق الكابتن «فان زنتن» الهولندي عنان محركات طائرته الجامبو الجبارة المحملة بالركاب والوقود .. وتسارعت على المدرج وظهرت فجأة طائرة جامبو أخرى من شركة «بان أمريكان» محملة بالركاب والوقود كانت على نفس المدرج ولكن الضباب غطاها .. ارتطمت الطائرتان وسببا أكبر كارثة جوية في تاريخ الطيران التجاري .. 583 قتيلا زهقت أرواحهم في الكارثة .. وقبل أن تبدأ اللجان المختصة بالتحقيقات الفنية في الموضوع، بدأ يقع اللوم على الطيارين، وبرج المراقبة في المطار .. بعضهم قالوا «إهمال» وبعضهم قالوا «تقصير» وبعضهم قالوا «إرهاق» والكثير قالوا «كروته» والمزعج هنا هو أن الأحكام الفردية على هذه الحوادث الفنية الطابع، والتي تطلبت عشرات الآلاف من الساعات من الدراسة والتحليل، خرجت بسرعة شائعات مستعجلة، ودون أخذ العديد من الأبعاد العلمية، ومئات العناصر الفنية في الاعتبار .. هذا ما قبل الإنترنت والتحول الإعلامي الهائل فما بالك كيف لو توافرت هذه الآليات القوية آنذاك؟ أمنية لابد أن نحزن، ونغضب، ونتساءل عن كارثة جدة، ولكن لابد أيضا أن نتأكد من الحقائق والمعلومات اللازمة والكافية لمعرفة ما حدث فعلا، وإلا فسنقع في أحد أخطر أنواع الكروته التي تتهم بلا أدلة، وتبني سيناريوهات هي أشبه بتصفية حسابات .. علما بأن هناك لجنة عليا هدفها الأساس هو تقصي الحقائق بتفاصيلها الدقيقة ورفعها لأعلى سلطة في الوطن .. أتمنى أن نتحلى بالصبر قبل اتهام أي جهة أو شخص، وأن نركز جهودنا على الإيجابيات في هذه الكارثة، ومنها أبطال الأعمال التطوعية الذين يقومون بمهام الإمدادات الإنسانية اليوم وكل يوم منذ بدء الكارثة، وأخص بالشكر الإخوة والأخوات الذين تشرفت بالوقوف معهم في منطقة كيلو 14 المتضررة .. وأخص بالشكر أيضا سيدة لم أرها اسمها «زهرة إدريس» وهي من المتطوعات الجداويات .. وعمرها بين الثمانين والتسعين .. أتمنى أن يوفقها ويوفقنا جميعا الله عز وجل في مساعدة كل من تضرر في الكارثة، وفى إنقاذ جدتنا الحبيبة. والله من وراء القصد. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 122 مسافة ثم الرسالة