ألقى د. عبد العزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام كلمة رحب فيها برؤساء البعثات الإعلامية وضيوف الوزارة، جاء فيها: أرحب بكم في المملكة العربية السعودية، وأدعو الله -تبارك وتعالى- أن يتقبل حجكم بقبول حسن، وأن يثيبكم ويجزيكم خير الجزاء، وأن يعيدكم الى أهليكم وبلدانكم، وقد غفر لكم ذنوبكم. ليس من ساعة يعيشها المسلم تساوي تلك الساعة التي مرت بكم، بعد أن من الله عليكم بالوقوف في صعيد عرفات الطاهر، في يوم الحج الأكبر، تشاركون إخوة لكم التوجه الى إله واحد أحد، وتسيرون على خطى أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- ومنتهجين نهج نبينا وحبيبنا سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- مستمسكين بحبل الله المتين، وقد أتيتم من كل أصقاع الدنيا، يشدكم إلى هذه الأماكن الطاهرة وجيب القلوب، تستشعرون الجلال والجمال؛ جلال المشهد العظيم، وجمال هذا الوادي المبارك الذي تعالت جنباته بأعذب نداء وأرقه: «لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك». وهناك لا تقع العيون إلا على كل معنى جميل، يعمر الروح بألوان من الشوق والتوق، فكم من قصة ضمها ذلك الوادي المبارك! وكم من عبرة سفحت على عتباته! فيا لله ما أعظم المقصد! ويا لله ما أسخى العطاء! ويا لله ما أعجز الكلمات، وما أقلها وهي تحاول اصطياد المعنى، ذلك المعنى الذي رامه أهل البصر، والشعراء، والعارفون، ولم يكادوا يلمون به، لكنهم كلما تجاذبتهم المقاصد وأعيتهم المقدرة البشرية التمسوه في كتاب الله، فوجدوه ثمة، فاطمأنوا إلى قول الله -تبارك وتعالى- «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين». الإخوة والأخوات ها نحن هؤلاء نجتمع بعد أن أتممنا الحج، وقبل أن نتهيأ للقادم من حياتنا، والحج أمنية الأمنيات وأعز رحلة يقوم بها المسلم في حياته، وهو، في شعائره المباركة ينطوي على ألوان من الرؤى والتأملات الحافلة بالمعاني، والزاخرة بالرموز، والحج يعطي كل من تشرف بأدائه ما يرومه من تلك الرؤى، وأحسب أن بيئة الحج منجم ثر لألون من الرؤى، وطبقات من المعاني، وهو، إلى ذلك، يحفل بمدونة ضخمة في الثقافة والأدب والعلم والفكر والفن، فالحج إلى البيت العتيق -إذا ما استعنت بمصطلحات ابن خلدون- كان ضربا من العمران الحضري، ولم يكن ذلك مقتصرا على بيئة الحج في مكةالمكرمة والمشاعر المقدسة، والمدينة المنورة، ولكنه شمل العالم الإسلامي كله، فأينما مرت قافلة الحج فثمة مدن تزدهر، واقتصاد يزخر، وثقافة تنمو، وكما كون الحج مفرداته الشرعية، فلقد كون، كذلك، مصلطحاته العمرانية الحضرية، ويستطيع المتأمل في رحلة الحج التي تأتي من الغرب الإسلامي، أو الشرق، أو الشمال، أو الجنوب، أن يحيط بتلك الحضارة الباذخة التي أنشأها الطريق إلى بيت الله العتيق. أما الثقافة والعلم بمختلف وجوهها، فثمة بنيان ثقافي ضخم شاده الحج، في زمن كانت الديار المقدسة في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، ملتقى العلماء والأدباء، ومجمع الكتب التي تحج إلى هذه الديار، فكم من عالم التقى عالما في منى أو عرفات، وكم من كتاب أنشأه صاحبه على مقربة من البيت الحرام، طلبا للأجر، والتماسا للبركة، ولقد بارك الله -تبارك وتعالى- في عشرات الكتب التي ألفت إلى جوار الكعبة المشرفة، وهل بخافٍ علينا تلك المؤلفات العظيمة كصحيح الإمام البخاري، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، والآجرومية لابن أجروم الصنهاجي وعشرات الكتب التي ألفها علماء الحجاج ومثقفوهم، في مسيرة علمية طويلة كان الحج فيها موحيا لألوان من المعاني والقيم العليا التي تبوح بها هذه الأمكنة الطيبة والنازلون فيها، أما الشعر، وأما الشعراء؛ فطوبى لذلك الشعر الحاني والحنون الذي ألهبت بطحاء مكة ووديانها وجبالها بشعر قلما يجود الزمان به، وبالله عليكم أنبئوني هل تستطيعون نسيان تلك التلاع، وذلك المنحنى؟ وهل ستعبرون على «الحطيم» و«زمزم» و«المقام»، و«الحجر». ما كان قولي هنا حديثا صنعته المناسبة، وأصول المجاملة، وأدب الضيافة، فأنتم قبل ذلك كله ضيوف الرحمن. ولكنني تذكرت -والذكرى تهيج- طرفا يسيرا مما نحن بسبيله من أمر الثقافة والكلمة التي صاغها سلف كريم وعظيم من علماء الحجاج وأدبائهم ومثقفيهم، وها أنا ذا أنثر على مسامعكم ما أوحاه لي المشهد الأعظم في يوم الحج الأعظم من أصول ينبغي علينا أن نأخذ بها، وأن نستوحيها في القادم من حياتنا التي ارتبطت بشرف الكلمة. ولعل أعظم ما يشعر به المسلمون، بعد المعاني الدينية للحج، فكرة الأمة الواحدة فليس كبيئة الحج إيحاء بمعاني الوحدة في الغاية، دون إلغاء للتنوع، فذلك خصيصة أكدها الإسلام، وكان الحج فرصة ممتازة للتعارف بين المسلمين «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم». والحج والمثول في هذه الأماكن الشريفة اتصال مباشر بفكرة الأمة الواحد والغاية الواحدة. والحج بما هو إعلان لشعار التوحيد، حيث إنه استجابة للأذان به، وتأكيد لذلك ب «لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك» هو تنقية النفس والجسد من الأدران والذنوب، ومن شروط هذه الشعيرة، الامتثال الكامل لله، فهي لله وحده لا شريك له، وما كان لله فلا ينبغي أن يشوبه شيء من أخلاط الدنيا، ولا يكدره دعوة عصبية، أو سياسية، أو عرقية، لأن ذلك يتنافى مع الغاية من الحج، بما إنه لله وحده، وبما إنه إلماح لفكرة الأمة الواحدة، امتثالا لقوله تعالى: «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج»، وعلى أن يتجرد الحاج من كل ما يسيء إلى الحجة الكاملة التي يرجع بها المسلم كيوم ولدته أمه، ومن ذلك أن يتحلى بأعلى درجات الالتزام، فهو في مكان لا يعضد شجره ولا ينفر صيده، ثم إذا عاد إلى حياته الطبيعية إذا به إنسان آخر، إنسان هذبه الحج، حين أجاب نداء ربه -عز وجل- وحين تعرف على أبناء أمته في هذه الديار المقدسة، وحين مر بأعظم تجربة في سلوك الخلق الرفيع والنهج القويم، فإذا آب إلى دنيا الناس بعد ذلك كان هذا الركن الذي أداه -بما احتمله من ألوان المكابدة المعنوية- شاهدا له أو عليه، وهذا ما أدركه أهل البصر والبصيرة من سلف هذه الأمة، ممن تأمل ببصره وبصيرته طبقات هذه المعاني القريبة من كل أحد وإن لم يدركها أي أحد. أما ما نحن فيه، نحن المشتغلين بالثقافة والإعلام، فأظن أن الحج إلى بيت الله العتيق سيلقي علينا -لو تأملنا ذلك عميقا- قولا ثقيلا فالكلمة -ونحن لا نشتغل بسوى الكلمة- مسؤولية، والكلمة شرف، والكلمة لدينا -نحن المسلمين- شأن من شؤون الدين. والإعلام، وإن تعددت وسائله وتنوعت مدارسه لا يستقيم له حال إن لم يتوخ الكلمة الطيبة، وارتياد الحق، وذلك نهج الإسلام، «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم» . أما اتخاذ الكلمة سبيلا للعصبية والإثارة فذلك يجافي روح الإسلام، ويعود بنا القهقرى إلى روح الجاهلية المقيتة، وينافي شرف الكلمة التي لها في ديننا مقام عظيم، وإن الحزن والألم ليعتصران النفس، ويدميان القلب حينما نتأمل كم أجج بعض ممن انتسب إلى المؤسسات الإعلامية نيران الفتنة، والفتنة أشد من القتل، نزولا على عصبية مقيتة ما أنزل الله بها من سلطان، في الوقت الذي كان ينبغي أن يتذكر كل من خط حرفا أمانة الكلمة وخطرها، وأحسب أن هذا درس بليغ يعلمنا إياه الحج، فلنتخذ من هذه اللحظة من هذه الشعيرة ميثاقا للكلمة البانية. للكلمة الشريفة. ولنراقب أقلامنا، بعد ذلك، وليتذكر كل من شرفه الله بالحج أن هذه الأمة التي ننتسب إليها في أمس الحاجة إلى أن نأخذ بيدها إلى الإصلاح، وكلنا يتفق أن أولى عتبات الإصلاح الكلمة الطيبة.