يسألني كثير من القراء والقارئات مرارا: كيف نكتب؟ وكيف نصبح مثقفين؟ ما هو السبيل إلى طريق الكتابة؟ ومرة فوجئت بقارئة صغيرة في السن تقول لي ببساطة وبدون مقدمات: أريد أن أكتب مثلك! كنت أجد إجابات كثيرة، لكن أشعر بعدها أنني لم أجب الإجابة الصحيحة أو المطلوبة. فأحيانا نقول إجابة موحدة للجميع: اقرأ كثيرا لكي تكتب، لكن بعدها أسأل نفسي: وماذا بعد؟ ماذا عن الموهبة والمثابرة والإخلاص والذاكرة؟ هل نسينا التجارب والمعرفة وغيرها، وحتى ولو توافر كل ذلك في شخص واحد فهل هذا شرط لكي يصبح كاتبا وكاتبا مرموقا؟ بل حتى أنا الذي أمارس هذه المهنة اللذيذة والموجعة في آن منذ سنوات طويلة كثيرا ما أسأل نفسي أسئلة صعبة، وأحيانا أنجح وأحيانا أحتار بل أفشل في الإجابة عنها. ليس الكاتب ملاكا ولا عبقريا خالدا لا يتكرر، غير أنني أجد أن الأسئلة حول الكتابة عادة ما تكون سهلة جدا بالمقارنة مع الإجابة. فمرة استلمت رسالة صغيرة من قارئ قال لي ببساطة شديدة: أية مجموعة من الكتب اقرأ وأصبح بعدها كاتبا؟ المهم أنني إذا أردت أن أكتب حول الكتابة فسوف أحتاج إلى مجلدات، لكن بدل هذه المجلدات وربما المقدمات الطويلة أو القصيرة سوف أحيل القارئ اليوم إلى كتاب جميل حول الكتابة قرأته أخيرا واسمه «رسائل إلى روائي شاب» للكاتب الأمريكي الجنوبي «ماريو بارغاس يوسا» تمت ترجمته إلى العربية أخيرا. ففي رسالته الثانية عشرة والأخيرة في الكتاب يقول: «لا يمكن لأحد أن يعلم أحدا الإبداع، وأقصى ما يمكن تعليمه هو القراءة والكتابة، وما تبقى يتعلمه المرء لنفسه بنفسه، وهو يتعثر، ويسقط وينهض من دون توقف». شخصيا أعرف كثيرين لا يريدون أن يسقطوا أو يتعثروا، فإذا حصل لهم مشوا في طرق من ورد وياسمين، وإن سقطوا فأظن جازما أنهم لن ينهضوا من جديد. لن أتشاءم اليوم، ولكن الكتابة مهنة شاقة جدا، بل إنها أكثر من ذلك، فالكاتب «ماريو» يرى أن «من يدخل الأدب بحماسة من يعتنق دينا، ويكون مستعدا لأن يكرس لهذا العمل وقته وطاقته وجهده، هو وحده من سيكون في وضع يمكنه من أن يصير كاتبا حقا، وأن يكتب عملا يعيش بعده». ويروي الكتاب الصيني المشهور «فن الكتابة» حكاية قديمة لشاب يعمل لسيد كان يريد أن يتعلم مهارة يكسب منها قوت يومه، قام هذا السيد يعلمه كل الطرق التي يذبح فيها التنين ويسلخه، وبعد بذل جهد كبير والكثير من النفقات يعود الشاب إلى أبيه ويخبره بشموخ عن مهارته الجديدة، فيرد أبوه: عظيم، لكن لدي سؤال واحد: أين يمكنك أن تجد تنينا؟ والكتابة والإبداع عموما هو هذا التنين المفقود. وحسب كتاب «رسائل إلى روائي شاب» للكاتب الأمريكي الجنوبي «ماريو بارغاس يوسا» فإن الإبداع في رأيه «كيمياء معقدة، تتفاعل في دهاليز النفس المعتمة، مثل فن لا يمكن القبض عليه وتشريحه وقولبته، وبالتالي توريثه أو تعليمه لأحد. فالإبداع إلى جانب الاجتهاد والمتابعة والتحصيل العلمي يتكون من جملة عناصر شديدة التباين والالتباس والغموض من قبيل الموهبة أو الإلهام والميل الفطري، وكذلك الأحلام والأوهام والهواجس، والهموم، والآمال، والمخاوف. فضلا عن صوت خافت ينبعث من ركن قصي، يقول حسب الشاعر الألماني ريلكه «إذا كنت تظن أنك قادر على العيش من دون كتابة فلا تكتب». وفي رسالة أخرى، في الكتاب الذي أنصح بشدة بقراءته، إلى صديقه الشاب يتحدث عن النجاح فيقول: «ستكتشف سريعا، إذا واظبت على الكتابة والنشر، إن الجوائز والاعتراف العام ومبيعات الكتب والسمعة الاجتماعية للكاتب، لها مسار تعسفي إلى أبعد الحدود، فهي تتجنب، بعناد أحيانا، من يستحقها بجدارة كبيرة، وتحاصر من يستحقها أقل وتثقل عليه. وهكذا يمكن من يعتقد أن النجاح والشهرة هما الحافز الجوهري لميوله الأدبية، أن يرى حلمه وإحباطه؛ لأنه يخلط بين الميل الأدبي والميل إلى بريق الشهرة والمنافع المادية التي يوفرها الأدب لبعض الكتاب وهم محدودون والأمران مختلفان». وقبل النجاح هناك مسائل مهمة في الكتابة وهي الأسلوب والتقنية وغيرهما لا يستطيع الكاتب «يوسا» ولا غيره أن يختصروها في كلمات قليلة. وبنفس هذه الكلمات القليلة واجهه أعظم روائي في العالم حاليا وهو الكاتب الكولومبي الشهير «غابرييل غارسيا ماركيز» صاحب روايات «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» وغيرها عندما سألته أمه بإلحاح ذات يوم وقالت له: أخبرني ماذا سأقول لأبيك عندما يسألني عن دراستك في الجامعة، قال لها بثقة شاب طموح: قولي له إنني سأصبح كاتبا، وكاتبا مرموقا أيضا. [email protected]