لا يعرف الكثيرون في مجتمعنا الفنان التشكيلي عبدالجبار اليحيا الذي يشار له بريادة هذا المجال.. اليحيا الذي دخل عقده التاسع مازال متشبثا بآرائه الصاخبة رغم مرضه، وقال عبارة أشبه بوداعية مبكرة: (قد أضطر إلى غسل الكلى ونسأل الله حسن الخاتمة).. التقيته في الرياض فوجدته متكئا على جدار الذكريات ومنحنيا بأسف أمام تراجع الذوق العام وغدر بعض أصدقائه ممن وصفهم بالمرتزقة واللصوص.. أشار لي بريادته الحقيقية لمنهج الحداثة، وقال: إن على الدكتور عبدالله الغذامي ورفاقه أن يستحوا من أقوالهم وممارساتهم التغريبية، مشددا على أنها كانت السبب الرئيسي لتضليل الشباب والتشويش على أفكاره.. وهاجم المتشددين من أدعياء حماة المرأة وأعلن على الملأ استمتاعه بالسخرية من أفكارهم خصوصا من يرفضون السماح لها بالتعبير ولو بفرشاة الرسم.. وسخر اليحيا من وسط ثقافي رواده من أصحاب الليل الطويل، وتساءل ضاحكا: أي ثقافة يقدمونها للناس وهم نائمون طوال النهار؟.. حوار قد يأتي على صاحبه بريح عاصفة، وقد لايحرك ساكنا لدى أحد كما هو حال الفن التشكيلي في بلادنا. عشت أيامي الأولى في الزبير وكانت تمور بالحراك؛ لقربها من البصرة، ولم يكن بها غير السعوديين الذين وصل عددهم إلى 40 ألفا، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى سجل 22 ألفا منهم أسماءهم كعراقيين بحثا عن بطاقات التموين التي توفر لهم الطعام يوميا ونتج عنها بعد ذلك تجنيد أبنائهم في الحرب، فيما رفض الباقون التسجيل خوفا من التجنيد الإجباري فكانوا يذهبون إلى القنصلية السعودية لصرف التموين اليومي لهم، وفي ظل أجواء الغليان السياسي التي شهدتها العراق في ذلك الوقت عقب اتفاق كيوشمان فقد قرر والدي إخراجنا تخوفا من تطور الأحداث، خصوصا أن اتحاد الطلبة العام كان موجودا وفاعلا في ضم الطلبة في كل الكليات الدراسية، فاتجهت إلى البحرين للعمل هناك، وكان والدي يستلم راتبي بالكامل ليصرف على الأسرة ولم أكن قد تعلمت حرفة معينة، ولكن لمعرفتي باللغة الإنجليزية فقد طلب مني العمل على تسجيل المسافرين الذين يجري عزلهم صحيا، فيما كان يعرف باسم (الكرنتينة)، فظللت أعمل لمدة سنة وثمانية أشهر ثم عرض علي أبناء خالي من أسرة المانع بالشرقية العمل معهم لأكون ممثلهم في أعمال المقاولات التي يقومون بها في رحيمة، ولكنني شعرت بالملل بعد فترة فأخبرني بعض أصدقائي أن هناك فرصة للابتعاث إلى أمريكا في مدرسة تدريب الظهران، فالتحقت بها وسافرت لتعلم الإلكترونيات، حيث التحقت بعد عودتي بالدفاع الجوي كموظف مدني على نظام (الصنوف) القديم، الذي كان يعطي المدني رتبة عسكرية بيضاء أما العسكري فيأخذ الصفراء، كما كان الراتب مغريا، فقد كنت أستلم في عامي الأول 570 ريالا، وهو ما يتجاوز أضعاف أكبر راتب يأخذه موظف حكومي تلك الفترة، بل إن راتب الوزير لم يكن يتجاوز 750 ريالا فقط، حيث كان يصرف لنا بدل غلاء وهندسة واستمررت على ذلك حتى تقاعدت من العمل الحكومي. • ما أهمية بيئة الزبير في تشكيل رؤيتك الفنية بالسلب أو الإيجاب؟ لم تكن لها تلك الأهمية لأنني غادرتها في التاسعة عشرة من عمري ولكنني تأثرت بابن خالتي الكبير (ناصر الخرجي) الذي كان فنانا ونحاتا ومثقفا متميزا في ذلك الوقت وساعد في تنمية مهاراتي أيضا ماكنت أقوم به من تقليد ونقل لما وجدته في كتاب علم الحيوان لأخي الأكبر بالثانوي فأكسبني ذلك مهارات الرسم الدقيق.. وأي فنان حقيقي مهما صغر أو كبر شأنه فكل البيئات تعتبر بالنسبة له موجبة والمسألة تعود لحجم التأثر وطبيعته واتجاهه والمبدع هو من يعكس استيعابه لتلك البيئة من خلال ريشته. • متى اكتشفت أن لديك موهبة الرسم؟ كنت أظن أن الشخبطة على الجدران تبرز مواهبي، لكن جدران الزبير لم تكن تشجع على الكتابة، لأنها مبنية من الحجر والصلابيخ، فيما يستخدم الجص أحيانا، وأنا لا أعلم بدايتي في الرسم كيف كانت سوى أنني ظللت شغوفا به ومن عمق استمراري فيه موقف حدث لي مع معلم مادة الدين التي لم أكن ميالا لها أبدا، فقد كنت أدرس في مدرسة حكومية يسمح فيها بالرسم، فبدأت أقلد الآخرين على السبورة، ولم تطل فترة بقائي فيها، فنقلني والدي إلى المدرسة الأهلية التي أنشأها بعض أهالي نجد بجوار بيتنا، وفيها دروس إضافية مثل الفقه والفرائض والعقيدة والخط وإمساك الدفاتر الحسابية، وفي إحدى الحصص الدينية كان الأستاذ يشرح الدرس في واد وأنا أرسم على الطاولة في واد آخر، ولم أشعر إلا بالعصا تهوي على ظهري من الأستاذ وهو يقول (اخس يا الخسيس شتسوي) ولشعوري بأنني مظلوم ولم أفعل ما يستحق الضرب فقد رفضت العودة للمدرسة الأهلية وطلبت العودة إلى مدرستي الحكومية البعيدة عن بيتنا وتعمقت منذ تلك اللحظة الرغبة في داخلي للرسم إلى درجة المرض، وفي تلك الفترة كانت القاعدة العسكرية البريطانية في الزبير تضم أسرى الحرب الإيطاليين تحديدا الذين يؤتى بهم بالبواخر عبر ميناء البصرة آنذاك ثم يعاد تحميل هذه البواخر بالأسلحة فتذهب إلى إيران وروسيا، ولم يكن لدى الأسرى مكان يذهبون إليه يوم إجازتهم الأسبوعية سوى السوق فيتم إنزالهم هناك فأعجب بعضهم بالمنائر والقباب الإسلامية ومافيها من زخارف وقيشان، فكانوا يجلسون في الشارع ويرسمون مشاهداتهم بالألوان المائية، وكنت أراقبهم وأتتبعهم من مكان إلى آخر بكل تطفل وفضول، فتعرفنا على بعض بالوجه، إذ لم يكن بيننا تفاهم باللغة فقام أحد الأسرى بأهدائي إحدى رسوماته وظللت محتفظا بها إلى أن سافرت إلى البحرين للعمل فتركتها هناك. • تخوفا من شيء ما؟ كل شيء كان ممنوعا في تلك الأيام، لدرجة أننا نهرب اسطوانات الغناء في أسفل الحقائب، أما الكتاب فكان يصادر علنا ولو كان (القرآن الكريم)، وكنت أسمع المفتشين يقولون إذا وجدوا لديك كتابا مثلا (أنت تقرأ.. حرام مايقرأ غير المطوع) وظللت أترك كتبي ومقتنياتي الفنية كلما غادرت مكانا إلى مكان آخر ففقدت الكثير مما كنت أنوي الاحتفاظ به. • شعرت أنها مصادرة ثقافية؟ هذا مسح شامل، له فائدته أحيانا، فقد جعلني أكثر كبتا وتحطيما من الناحية الفنية وجسدت ذلك في لوحاتي، وأتذكر أنه كانت عندي كتب مترجمة عندما سكنت في جدة عام 1952م، وفيها معلومات عن المذاهب والمدارس السريالية التي لم تكن معروفة آنذاك، وكنت أرسم لوحات سريالية في وقت لم تكن فيه البلدان العربية تدرك حتى معانيها، فهذا تحطيم للنمط المألوف وشذوذ عن القاعدة الكلاسيكية الشائعة آنذاك ثم جاءت بعدها المدارس التجريبية والتكعيبية فأحدثت ثورة في الفن التشكيلي. • هناك من قال إنك أدخلت الحداثة في لوحاتك قبل ظهورها كمنهج؟ قلائل كتبوا أنني أول من أدخل الحداثة في الأدب، وهذا أمر لا أدعيه، فقبل 25 عاما كنت أنادي في الرياض بالانطلاق والتحرر من القيود وكنت أقرأ لنازك الملائكة وبدر شاكر السياب أن التفعيلة ماهي إلا أبيات مقطعة حسب المعنى وسياق الخواطر والأفكار، وأن لا يتقيد الشاعر بقافية واحدة لكيلا يكون أسيرا للتكلف.. فأنا أدركها منذ تلك الفترة ووجدت في أحد المعارض أخيرا من كتب أيضا أن عبدالجبار اليحيا أول من علمنا الحداثة. • هذا سيغضب الدكتور الغذامي؟ أنا الذي يجب أن يغضب منهم، لأنهم قدموا لنا مسخا فكريا نسوا من خلاله عروبتهم، وعليهم أن يستحوا من أنفسهم، لأنهم ذهبوا للاغتراف من الخارج وتاريخهم العربي مليء بالنقاد والألسنيين والنحويين الذين ينبعث منهم أي تطوير، فالعرب ابتدعوا الموسيقى والجبر وكلها فلسفات. • تعتقد أنهم ارتكبوا خطيئة؟ طبعا وأياديهم ملطخة بالأفكار التي خربت الشباب وضللتهم وأضاعت عليهم معالم الطريق وخلقت عندهم عقدا ضميرية. • ويدخل في ذلك حتى النقاد؟ أساسا لا يوجد لدينا نقاد، ومن وجد فنانا أو آدميا تجده خريج المدارس الغربية، فهم بدأوا من هناك وليس من هنا، حيث توجد حضارتهم وتراثهم وإرثهم. • الحال نفسه ينطبق على الفنانين التشكيليين؟ الفنان التشكيلي يجب أن يكون مثقفا وواعيا أكثر من غيره وهذا الأمر شبه منعدم وسط المثقفين، فكاتب القصة أو المسرح لم يسمع سيمفونية ولم يشاهد دار أوبرا ولم يحضر عرضا مسرحيا أو معرضا، وتجده يصنف نفسه مثقفا بعد سهرة ليلية طويلة ثم ينام طوال النهار، فبالله، ماذا سيقدم هذا المثقف للناس؟ ثم يأتيك متشدقا بأنه (مثقف) وللأسف في عالم التشكيليين من إحساسه متبلد وفيهم المتأني والعاطفي، والأمر عائد في نهاية الأمر لردة الفعل المبنية على ثقافة كل شخص. • من الملاحظ أن السياسة تسيطر على تفكيرك دائما؟ تشغلني من حيث التضامن والتأييد، وليس كانخراط فعلي، فأنا كمثقف أبدي رأيي ولا أحاول الاصطدام. • حتى مع الرافضين للفن التشكيلي؟ لا مكان أبدا للدخول بين المنغلقين. • تعتقد أنهم ضيقوا عليكم مساحات التحرك؟ حاولوا طيلة السنوات الماضية أن يفرضوا فكرهم وسطحيتهم ولم يتمكنوا من التضييق علي شخصيا بل على العكس كنت أستمتع بالسخرية منهم. • جسدت هذا التأزم في لوحاتك؟ تجسيد خطوط التماس مع الأشخاص والأفكار أمر غير مجد، خصوصا مع هذه الفئة، لعدم وجود بصيص أمل أو احتمال للتفاهم معهم. • ماسر اختلاف اسمك عن شقيقك الفنان المعروف (عبدالله الشيخ)؟ عبدالله لم يفصل اسمه من جواز أبي بعد بلوغه الثامنة عشرة، حسب ما يقتضيه النظام، وظل يسافر ويدرس على ضوء ما هو موجود في أوراق الوالد الثبوتية في العراق، حيث حذف منها اسم الجد اليحيا والأسرة، وعندما جاء إلى المملكة فرض عليه النظام أن يسجل اسمه على ضوء أوراق الوالد الثبوتية فأصبح اسمه عبدالله عبدالكريم الشيخ. • تتوارثون الفن التشكيلي في الأسرة؟ هكذا أرادنا الله، أما أبنائي فلهم اهتماماتهم الخاصة في إطار المسمى الفني، فمازن شاعر وحازم موسيقي يعزف بالعود والجيتار والبيانو وحسين ناشر. • عملت كأول صحفي تشكيلي لسنة ونصف في صحيفة جداوية ثم انقطعت إلى غير رجعة، لماذا؟ أحبطوني بكل صراحة بنظرية البلاش في الوقت الذي أعطوا فيه لزملاء آخرين مكافآت شهرية فقررت أن أنسحب في هدوء وكان ذلك آخر عهدي بها. • أقرب لوحاتك إلى نفسك؟ كل لوحاتي غالية على نفسي بظروف رسمها ومناسبتها وأتعامل معهم كقطع الدومينو، كلما جاءت واحدة حلت محل الأخرى مكانيا فقط. • شكلت المرأة حيزا كبيرا في لوحاتك على مدى نصف قرن؟ أنا من محبي الحركة النسائية ومناصر للمرأة في كل تحركاتها، كقضية وليس كأنثى فقط، وأدعم موقفها من خلال لوحاتي وكتاباتي أيضا. • وما هو تفسيرك لظاهرة امتداد المرأة لتصبح العنصر الغالب في الوسط التشكيلي أكثر من الرجال؟ الله يبشرك بالخير، فهذا دلالة على أن الضغط يولد وسائل تنفيس عما في دواخل الناس، وليس من المعقول أن تأخذ واحدة من القمقم وتدخلها الجامعة وقد تصبح دكتورة وهي عاجزة عن التعبير عن نفسها ولو بكلمة واحدة.. من المؤسف أننا مازلنا نشاهد بعض أدعياء حماية المرأة يمنعونها من التعبير عن نفسها ولو بفرشاة وألوان، فأي تفكير هذا. • هل شعرت أن هناك خطا معترضا لفنك؟ لايستطيع أحد أن يعارضني، لا في الداخل ولا الخارج. • إلى أي مدى يقتات الفنان التشكيلي من لوحاته؟ هذا أمر حدث وسيحدث، خصوصا لمن ليس له دخل آخر، والمسألة ليست عيبا إلا إذا دخلت مرحلة التنازل عن القناعات فهنا تخرج من إطارها الفني الحقيقي، وعندما جئت إلى الرياض عام 1970م كنت في ضيق شديد، فبدأت ببيع بعض لوحاتي بخمسة وسبعين ريالا إلى مائة ريال للوحة الواحدة، ولكنني توقفت بعد ذلك ولم أبع منذ عام 1985م إلى الآن لوحة واحدة، فأنا لا أقتات من وراء لوحاتي. • ولو عرض عليك ذلك؟ هم يعرفونني فلا يطرقون بابي، فأنا لا أبيع فني. • يلاحظ عدم وجود ترابط بين الوظائف التي عملت بها قبل أن تبرز كفنان تشكيلي؟ لم يكن هناك خيار للاختيار أو التخطيط، وإنما هي فرص نادرة، فإن جاءت فلا تتركها، وهكذا كانت مراحل حياتي كلها. • الغريب أنك لم تدرس الفن التشكيلي بعمق؟ ولا بشكل سطحي، وإنما تفوقت فيه بقراءاتي الدائمة وجهدي الشخصي من خلال زيارة المتاحف والمعارض وشراء الكتب. • هذا مع ندرة الكتاب العربي في مجال الفن التشكيلي؟ لا يوجد في المصادر العربية أي كتاب يستحق القراءة، كما أن الترجمات العربية خصوصا المصرية منها ضعيفة جدا. • لكن بيت التشكيليين هش من الداخل كما يبدو؟ ربما يكون مختلفا وليس هشا، والاختلاف أمر صحي ومطلوب. • مع أنكم تعملون وليس هناك جدار داعم لكم؟ يحمينا نظام حقوق المؤلف. • كيف يحميك وأنت تشتكي من سرقة لوحاتك دائما؟ السرقة غير الاستنساخ والتقليد.. فهنا لا يوجد نظام حماية واضح، ولا أخفيك أن الوسط التشكيلي ملوث باللصوصية والمرتزقة، ولهم الفضل الرئيسي في تراجع القيمة الفنية في الآونة الأخيرة، وأنا ابتليت ببعض أصدقائي ممن سرقوا لوحاتي وباعوها بثمن بخس، وهذا أمر معيب ولاشك. • والجمعية السعودية للثقافة والفنون؟ لم نستفد منها شيئا حتى الآن وليس هناك دعم أصلا، والجمعية للشدي وليس لأحد آخر، ولا أفهم لماذا أنشئت أصلا. • تعتقد أنكم بحاجة لنظام يحمي حقوقكم من السرقة؟ دعني أجيب على سؤالك بالإشارة إلى تاريخنا الموجود فيه اسما وتنظيما هذه الصيغة، وهو تنظيم موجود منذ أيام الدولة العباسية، فالحرفيون لهم مرجعياتهم، ومن ثم فمرجعياتهم المأخوذ بها في بعض البلدان العربية ليس مستحدثا، بل هو من صميم تاريخنا، وأستغرب لماذا لانستفيد من تاريخنا فيكون لدينا مثل هذه النقابات، ونحن بحاجة إلى استخدام أساليب جديدة ومستحدثة، أما المواد الأساسية فموجودة لدينا. • كم لوحة سرقت منك حتى الآن؟ إحدى لوحاتي التراثية عرضت في الجنادرية بثلاثين ألف ريال، وكنت مسافرا وقتها فتركتها عند صديق وكان عنده معرض خاص فقام بعرضها للبيع، وكلما سألته عن قيمتها يتحجج ويتهرب، وبعد فترة رأيتها تتصدر المجلس في إحدى حلقات مسلسل (طاش ماطاش) فآثرت الصمت مع أنها لوحتي الحقيقية وأعرفها جيدا.. صديق آخر أخذ مني أربع لوحات كنت قد رسمتها لإحدى الكليات ليوصلها لهم ثم اختفى، وكلما أقابله وأسأله عنها يقول: لم يعطوني مقابلها شيئا. وأنا من جهتي لم أتكبد عناء سؤال المسؤولين في الكلية عن الأمر؛ لأنه صديق لي وقد يكون في ظرف اضطره لهذا العمل.. صديق ثالث أخذ مني لوحة وباعها لفنان تشكيلي آخر وكلما سألت الاثنين عن اللوحة يرمي كل واحد منهما بالتهمة على الآخر. • أين تكمن قوة الفن التشكيلي في عالمنا العربي؟ لن تصدق أنه موجود منذ آلاف السنين في الجزيرة العربية، ولكن هناك من طمس هذه الحقيقة ونسبها إلى العراق ومصر، وهذا غير صحيح بدليل ما اكتشفه الدكتور عبدالرحمن الأنصاري في قرية الفاو من وجود نقوش عن كيفية تدجين الجمل الوحشي، وهذا الأمر حدث قبل الرافدين والفراعنة. • هل تعتبر هذه النقوش مصدرا للفن التشكيلي؟ بل هي أساسه وبنيته الحقيقية، فالنقوش تعبير عن الإنسان بالحروف الأبجدية والمسمارية والفينيقية وكل الهجرات بدأت من الجزيرة العربية ثم اتجهت إلى الشمال حاملة معها كل مكتسبات وصفات وخصائص المهاجرين، والخليل بن أحمد الذي يعود أجداده إلى الجزيرة العربية عندما عمل الأوزان تعرف عليها بعد ذهابه لسوق الصفارين وسماعه طرق النحاس، فاكتشف التقطيع الموسيقي في الطرق على المطارق . • هذه معلومات تحتاج لمن يبسطها للناس؟ المشكلة أن الناس لايقرأون ولايريدون أن يفهموا الواقع، وقد أعددت قبل فترة محاضرة عن (كيفية النهوض بالفن التشكيلي) في أحد القطاعات الحكومية، فلم يحضرها إلا خمسة أشخاص فقط. • شيء محبط؟ ومحزن إلى حد سواء، وقد أعيدت قراءة أوراق هذه المحاضرة بربطها بأصول وجذور الفن التشكيلي في مناسبة قادمة، أتمنى أن تحظى بحضور جيد. • ربما لهم العذر في عدم الحضور لشعورهم بأن الفن التشكيلي ثقيل على القلب؟ هم يتذوقونه ولكن لا يفهمونه، ويكفيك لتعرف حالة الجهل التي نعيشها أن مدرس مادة التربية الفنية في مدارسنا يعمل في المدرسة كأستاذ احتياط أو بديل لأي مدرس غائب، وقد طالبت منذ فترة بأن تكون مادة التربية الفنية إلزامية وعليها درجات ولم يلتفت لي أحد، ومن المؤسف أن القائمين على التعليم لا يريدون أن يفهموا المسألة ليتعاملوا معها، فبالله عليك أي فن نعلمه لأبنائنا ولو بتذوق معنى الجمال ودعني أسألك.. أليست إماطة الأذي عن الطريق مظهرا جماليا دعى له الإسلام، فلماذا لم نعلم أبناءنا ذلك مع أن اللوحة كما تراها في مخيلتك تدخل في الفن التشكيلي الذي يخطئ الكثيرون فيقولون إنه رسم فقط. • هناك من قال إن الفن التشكيلي السعودي محاصر بين ما يتم رسمه وما يجب رسمه؟ ربما.. لكن هناك تكرار وضعف ثقافي يصل إلى درجة العدم أحيانا، وفي فترة من الفترات كان بعض السياح يطلب رسم لوحة لمنظر معين مثلا في الرياض، فيتكرر رسمها مع تغييرات بسيطة من قبل الفنان، كأن يفتح نافذة مغلقة في الصور أو ما شابه ذلك، وهذه حصلت معي عدة مرات. • قضية الريادة في الفن التشكيلي لمن تعود؟ قيادة الحركة التشكيلية تحتاج إلى فكر ناضج، ولا يوجد فينا وللأسف من هو أهل لذلك حتى من يتحدث معك وأنا أشك في وجوده.. صحيح أن في الساحة العديد من الرواد ممن خدموا هذا الفن على مدى أكثر من أربعين عاما.. لكن تحديد الأفضلية يعود للجمهور ومدى تقييمه لعطاء كل شخص من خلال إنتاجه والتحامه في قضايا الناس وفكرهم. • ماهو الأصعب بالنسبة لك الفكرة أم تنفيذها؟ الرسم لا يأخذ وقتا لكن المشكلة في كيفية الإتيان بالفكرة، فهذه قد تأخذ شهورا وأحيانا تأتيني إذا أطفأت سيجارة مثلا، ثم تبدأ معاناة التخيل والتصوير، وهنا تأتي ثقافة الفنان لتكون عونا له في تحريك ريشته. • الدكتور عمران القيسي الفنان التشكيلي العراقي قال إن الفن التشكيلي السعودي قام على جهود صفية بن زقر ومنيرة موصلي فقط، اللتين لم تتأثرا بالآخرين. ونفى جهود المرحوم عبدالحليم رضوى وجهدك أنت تحديدا؟ هذا كلام غير صحيح فمنيرة موصلي درست في بيروت والقاهرة، أما صفية بن زقر فعلمت نفسها بنفسها من خلال دورات خاصة كثيرة، وعمران القيسي ليس دكتورا وأنا أعرفه من ساسه إلى رأسه وكلامه فيه نظر. • لماذا غبتم عن رسم رؤى تشكيلية تساهم في تنمية الوطن من خلال المشاريع التنموية كالملاعب والكباري وغيرها؟ لابد من وجود داعم لمثل هذه الجهود، ولا يمكن أن تقنع فنانا بترك أسرته والجلوس تحت الأنفاق والكباري مجانا، هذا إن لم يتعرض للضرب والمضايقة من بعض السطحيين المتشددين والرافضين لفنه. • بمعنى أنكم تسيرون في طريق مسدود يصطدم مع المجتمع؟ ليس لهذه الدرجة، فالزمن كفيل بأن تهترئ هذه الأمور وتزول وسيتحول كل شيء إلى تلقائي في يوم ما. • عايشت نكسة 67 وجسدتها في لوحاتك.. فبماذا خرجت منها؟ بأنه لا جديد في القومية العربية التي جاءت بها.. وبصراحة لم أكن متعاطفا معها منذ البداية، وكنت عنيفا في نقدها لأنها مارست الكذب وكيف لي أن أتعاطف مع من يخاطبني ويتكلم عن العروبة وكأننا لسنا عربا في الأصل. • رغم انتقادك الدائم لأمريكا، إلا أنك أقمت أول معرضين لك في الرياض في مقر البعثة الأمريكية وشركة لوكهيد، فهل هي ازدواجية مواقف؟ لا ازدواجية مواقف ولا شيء آخر، المسألة ببساطة أن المعارض التشكيلية كانت ممنوعة، وهاتان الشركتان لديهما أماكن وممرات يمكن عرض لوحاتي من خلالها فأقمتها من باب الرغبة في التعريف بفني فقط. • صحيح أنك ترسم فترة تقاعدك الآن؟ لم أرسم منذ ستة أشهر، والمسألة مرتبطة بالصحة أيضا، فأنا أعاني من الضغط والسكر، وجاءت الكلى لتكمل الباقي، وقد أخبرني الأطباء أنني قد أدخل مرحلة الغسيل مستقبلا وقد يكون هذا لقاءنا الأخير إن لم يكتب لنا عمر أطول.