كانت وفاة والدنا الشيخ محمد عبد الرحمن الشيباني يوم الخميس 17 ذي القعدة من عام 1430 هجرية (5 نوفمبر من عام 2009م)، وصلى عليه المسلمون بعد العشاء من ليلة الجمعة، وحمله مشيعوه إلى مثواه الأخير في «شعبة النور» في مقبرة المعلى في مكةالمكرمة، وقد انصرفنا من المقبرة منصرف الشاعر أبي تمام: راحت وفود الأرض عن قبره فارغة الأيدي ملاء القلوب قد علمت ما رزأت، وإنما يعرف فقد الشمس بعد الغروب لقد عاش الفقيد حياة مديدة، فكان لكل من عرفه مدرسة في قوة الإيمان، وفي حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الورع وفي الإقبال على الطاعات، ومجاهدة النفس «بكثرة ما يحصل من الأخلاق الحميدة»، وصحبة أخيار الناس من أهل العلم والفضل والمساكين والزهاد، وأطر النفس على الزهد، والتواضع، والجد والمثابرة، في حياته العملية، وبعد تقاعده رحمه الله من العمل،أصبح متعهدا القرآن الكريم ليله ونهاره، قائما بالفروض في أوقاتها، متبعها السنن الراتبة، متخذا وردا ثابتا من دوام الطواف حول الكعبة، ومن قيام الليل في المسجد الحرام، وفي المسجد النبوي، وفي جوف داره عندما يزدحم الحرمان بالحجاج والمعتمرين، ومن الحج إلى الحج والعمرة إلى العمرة. حسن الخلق الشيخ الشيباني مدرسة في حسن الخلق، متمثلا قولا وعملا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق». وكل من عرفه لن يقلب في صفحات شعب الإيمان والفضائل إلا ووجد فقيدنا الغالي رحمه الله آخذا منها بما وسعه الجهد أن يأخذ، صبورا، متماسكا عند الصدمات، رقيق الحاشية، سريع الدمعة، جوادا، سخيا، كريما، قنوعا، حييا، عف النفس، عف اللسان، لا فحاشا ولا لعانا، عارضا عن لغو الحديث، طيب المطعم، لا باغضا ولا حاسدا، حاثا أهله على المعروف، زاجرهم عن المنكر، واصلا قرابته وأصدقاءه، محسنا، حافظا لأصحاب الحقوق حقوقهم، موفيا حقوق زوجه وأولاده بحسن العشرة وكمال التربية والرعاية، عوادا للمرضى، مشاء في الجنازات، مجيبا دعوات الداعين، فتراه في بيت الفقير والمسكين، لا يرضى منهم التكلف، متجاوزا عن زلات المعارف والأصدقاء، يستغفر الله لنفسه ولهم، محسنا، حافظا حقوق الجيران مسبلا بئرا احتفرها في منزله في مكةالمكرمة لسقياهم إلى اليوم، فإذا غار ماء البئر تولى شراء حاويات الماء لهم، سقاه الله وإيانا بيد سيدنا محمد ومن حوضه شربة هنيئة لا يظمأ ولا نظمأ بعدها أبدا، وهو في صفحه عن الزلات كأنه يتمثل: أغمض عيني عن صديقي متعمدا كأني بما يأتي من الأمور جاهل وما بي جهل غير أن خليقتي تطيق احتمال الكره فيما يحاول وفي كل من هذه الشمائل تفصيل لنماذج من حياته يضيق عنها المكان. الإحسان والمكرمات لقد امتدت مودته لوالدي رحمه الله طوال حياتهما، فكان رحمه الله ورحم والدي ووالديهما، سباقا إليه بالإحسان والمكرمات، المادي منها والمعنوي، فكان يبادره دوما بالزيارة، بل كان يصطحب من أبنائه البررة من يكون معه في المدينةالمنورة لزيارة والدي في داره، فتراه في الغرفة الضيقة كأنه في أوسع الصوالين، وعلى البساط كأنه على أحسن المفارش والرياش، بشاشة وبشرا، وبسط وجه، وفرحا بزيارة القريب. ولما مرض والدي رحمه الله واضطررنا لعلاجه في مستشفى الملك خالد التخصصي لأمراض العيون، وما كان يستطيع وقتها لعارض زيارته في الرياض، فكان دائم السؤال عن صحته وتفقد حاله بكرة وعشيا، حتى إذا عاد إلى المدينة، كان هو أول من انتقل إليها مخصوصا لعيادته بعد أداء ما يجب من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحمه الله هذا دأبه، لا يزور المدينةالمنورة ويحرص ألا يعلم أحدا مسبقا بذلك حتى يكون أول من يزور شقيقه العم محمد سعيد الشيباني في داره، ثم تراه يزور بقية أقاربه، وأكثرهم من المستورين في حياتهم ومعاشهم عيش الكفاف، يزورهم في دورهم، وفي غرفهم البسيطة، وفي شققهم الضيقة، الرجال منهم والنساء، يفاجئهم بذلك، فلا تعرف أيهما الأكثر سرورا بتلك الزيارة. ولما تبصر والدي، زاد إشفاق الشيخ الشيباني عليه، فكان عندما يزوره ينحني على جبهته فيقبلها، ويمسك بيده ويضمهما، تقديرا للقرابة ولأهل الله، أهل القرآن، ويلح عليه بالدعاء له. الواحدة صباحا ولما فاضت روح والدي الثانية عشرة والنصف ليلا في المدينةالمنورة، وحرصنا على الإسراع بدفنه، وحددنا ذلك بعد الفجر، وأعلمه ابنه محمد معروف الشيباني بالنبأ، ركب من فوره بعد الواحدة صباحا سيارته وهو في مكةالمكرمة، وحثت مطيته السير، فأدرك صلاة الميت عليه فجر ذاك اليوم في المسجد النبوي الشريف، وكان في مقدمة مشيعيه إلى بقيع الغرقد، ووقف على قبره على الربوة شمال مدافن آل البيت رضوان الله عليهم أجمعين، وحرص على البقاء إلى جوارنا يتقدمنا فيتلقى العزاء فيه طوال أيام العزاء، وأمر رحمه الله ألا يتكلف أحد من الأهل والأصدقاء إطعامنا وإطعام المعزين غداء وعشاء غيره، وتولى ذلك أيام العزاء الثلاثة. وعلى هذا النحو كان عمله رحمه الله مع كل قريب مات له ولنا في المدينةالمنورة سكنى أهلنا كذلك حاله مع من يتوفى من أصدقائه، وحتى معارفه الأبعدين، لا يفوته المشي وهو قادر في جنازة سمع عنها، وإذا لم تره في الجنازة فنعرف أنه لم يسمع عنها، أو أن عارضا مانعا حال بينه وبينها، ولا يفوته عزاء أهلها، بما هو متاح من الوسائل، وكثيرا ما تراه يقف مع أصحاب الميت يتلقى العزاء، لقد كان نسيج وحده في هذا، وفي الكثير مما اشتهر به من المحامد. السن القانوني كنت في دراستي أتطلع بعد تخرجي من الثانوية في المعهد العلمي السعودي أن ألتحق بالجامعة لأدرس اللغة الإنجليزية، ولما تعذر ذلك في جامعة الملك سعود عام 1381 هجرية، فكان في ذلك الخير، فالتحقت بكلية الشريعة في مكةالمكرمة ومنها تخرجت، وكان النظام يقضي أن لا يكون التسجيل في الكلية إلا لمن يحمل حفيظة النفوس، ولم أتمكن من استخراجها لأن سني في حفيظة والدي دون السن القانوني بقليل، فسعى صديق لوالدي عند الشيخ عبد الله عبد المجيد بغدادي رحمه الله صاحب السفر الكبير: الانطلاقة التعليمية في المملكة العربية السعودية أصولها جذورها أولياتها، وكان وقتها عميدا لكلية الشريعة فأمر بتسجيلي، لما اجتزت المقابلة الشخصية المؤهلة للقبول، وأمر بصرف المكافأة المخصصة لطلابها لحين حصولي على حفيظة نفوس مستقلة، تلك المكافأة التي لولاها بعد الله لما تمكنت من إتمام دراستي لا في الابتدائية في مدرسة القراءات ولا في المتوسطة والثانوية في المعهد العلمي السعودي في المدينةالمنورة، فرحم الله الملك عبد العزيز آل سعود الذي رأى بثاقب بصره وبصيرته عجز الأكثرية الساحقة من مواطنيه عن الدراسة بغير هذه المكافأة التي فرضها في كل مراحل التعليم، فكانت المنصة التي انطلقت عليها نهضة التعليم في بدايات التأسيس، ولم يعقه عن ذلك شح الموارد المالية، وقد بارك الله له في عمله، فكانت الأجيال التي تتالت تحمل أرفع الشهادات من أفضل الجامعات، والأيدي مرفوعة بالدعاء له بالرحمة والغفران. لجنة التسنين توجهت في الإجازة الدراسية لوالدنا الشيخ الشيباني، وكان وقتها في وزارة الإعلام، فنهض معي إلى مكتب السيد عبد الله يحيى جفري مدير الجوازات والجنسية في جدة، فكان أن حل مشكلتي بإحالتي إلى لجنة التسنين في المديرية الصحية في جدة، وكانت اللجنة في المحجر، فكان تقريرها أني بلغت 18 عاما، وحصلت بذلك على حفيظة نفوس مستقلة. أسوق هذا دليلا على حب الشيخ الشيباني للرحم خاصة، وواجباتها، وحبه رحمه الله للخير عامة، والسعي فيه، يفعل ما فعل معي لكل صاحب حاجة، لا يترك صاحبها إلى سكرتيره، ولا إلى الهاتف وإنما يسعى بنفسه وجاهه، حتى يضمن تحقيقها بأسرع وقت، وهو يعرف أن صاحب الحاجة أعمى، وعجل، ولا يريد لغايته إلا أن تتحف بالأمس، وليس اليوم. وخلال عامي الأول بعد تخرجي، حاولت الانتساب لجامعة الملك سعود، فلم أوفق، فاليد المالية قصيرة جدا، والمواصلات صعبة، وفي عامي الثاني من حياتي العملية خطر لي أن أنتسب لجامعة دمشق لدراسة القانون، فقد حببتني دراستي في كلية الشريعة إلى دراسة الفقه واستنباط الأحكام، فخطر لي أن أتوسع بدراسة القانون، وأن أكون صاحب شهادتين جامعيتين، وأن أمارس المرافعات التي كنت أسمع عن براعة رجالها، وكانت جامعة دمشق في سوريا قد فتحت باب الانتساب، فتقدمت عبر وكيل خدمات انتساب في دمشق، فرآني الوالد الشيخ الشيباني مرة، فسألني ما أنت فاعل بعد التخرج في مجال الدراسة، فذكرت له الخاطر، فاستفسر عن تكاليف خدمات الانتساب التي تشمل رسوم التسجيل، وأسعار المراجع العلمية، وتكاليف نقلها وخلاصات المحاضرات، فإذا مبلغ لا تسمح به ميزانيتي، فما كان منه إلا أن أخذ بيدي إلى سيارته واصطحبني إلى البنك الأهلي وحول من جيبه تكاليف انتسابي، ولم أتمكن من مواصلة دراسة الانتساب أيضا، بعد أن خلطت إلى جانب وظيفة التدريس، ومن بعدها العمل الإداري العمل الصحفي، فإذا أنا أمام حقيقة المثل «صاحب صنعتين كذاب، والثالثة أعاذنا الله والقارئ من بقية المثل». ولقد تعرضت أثناء مشواري الصحافي لعوارض، بعضها جديد علي ومزعج لوالدي وأسرتي، فكان الشيخ الشيباني أول المبادرين في السعي لرفع ما تعرضت له، وأياديه علي في هذا وفي كثير غيره لا تحصى. منزل جدة وأختم بأمر ما كان رحمه الله يحب أن يذكر عنه، ألا وهو مضافته في منزله في جدة، وفي هذه المضافة عشت سنوات دراستي في كلية الشريعة في مكةالمكرمة، أسكن فيها، يأتيني الطعام بكرة وعشيا أتناوله مع الضيوف، الذين ما كانت تخلو منهم المضافة، وكان رحمه الله يحرص على مشاركة ضيوفه الطعام عندما يكون في المنزل. وأنا أسمي بعض نزلائها ضيوفا، لكن مثلي لم يكن ضيفا، بل كان ساكنا بالمجان، مشمول النفقة، وما ذلك إلا مما أشرنا إليه في بداية هذه العجالة عن كرمه وسخائه، وحبه للأضياف خاصة المساكين منهم، والطلاب في مقدمهم. أنزل الله على ذلك القبر في شعبة النور في المعلى قبر والدنا الشيخ محمد عبد الرحمن الشيباني شآبيب الرحمة والرضوان، ونودع فقيدنا وهو إن شاء الله من المنعمين، نردد مع الشاعر: أما القبور فإنهن أوانس بفناء قبرك والديار قبور عمت فواضله فعم مصابه فالناس كلهم فيه مأجور يثني عليك لسان من لم توله خيرا لأنك بالثناء جدير فالناس مأتمهم عليك واحد في كل دار رنة وزفير