نشرت جريدة «عكاظ» في عددها 15762 ليوم الخميس 3 ذي القعدة في صفحة 17 ملحق الدين والحياة، تحقيقا عن تلبس الجن بالإنس. وكان التحقيق شاملا إلا أن ما شدني هو قول د. السويدان وفقه الله وهداه بأن «الاعتقاد بتلبس الجن للإنس تخلف، ووصفه بالخرافي، وقال بأنه يتعارض مع الشريعة الإسلامية ونعته بأنه من الاعتقادات الخرافية، وعده أيضا بأنه من الكهنوتية وتعطيل عقول المسلمين».. انتهى كلامه. والحقيقة أن الحيرة والدهشة والغرابة في كلامه هذا وفي رده لأمر أجمع عليه علماء المسلمين سلفا وخلفا وتواترت على صحته الأدلة، بل إن تلبس الجن بالإنس ثابت ويقول به الغرب، وتثبته جميع الثقافات بكل أنواعها وأطيافها. وللأسف فقد أنكر ما ثبت بالأدلة والنصوص الصحيحة ولم يحاول أن يذكر أي دليل على قوله سوى أنه سطر قناعته الشخصية التي قد تكون مبنية على جهل أو غبش في التصور والخطأ من البشر وارد. ولأن سعادته أعني د. طارق من قادة الفكر في عصرنا الحاضر ومن الذين تتسابق وسائل الإعلام إلى أخذ أقوالهم وإظهارهم ولأنه يقود وسيلة إعلامية ناجحة اضطررت إلى تقديم هذه النصيحة إلى سعادته لأن «محبتي فيه تأبى أن تساعدني بأن أراه على شيء من الزلل»، كما قال الشاعر المبدع د. عبد الرحمن العشماوي حفظه الله. د. طارق السويدان كما أسلفت من الأعلام في التدريب على تطوير النفس ومن أسس هذا العمل أن يتعلم الإنسان بأن يفكر قبل أن يتحدث وأن يعلم بأن ما سيقوله «له» قبل أن يتفوه به وأنه سيكون «عليه» إذا أخرجه من فيه. وهذا مما تعلمناه منه حفظه الله. وأيضا تعلمنا من سعادته بأن الإنسان لا بد من أن يطلع ويدرس ويلم بجوانب المواضيع التي يخوض ويقرر فيها ويتحدث حولها خاصة إذا كانت حول تشريع سماوي. وأتمنى أن يعرض التحقيق الذي اجتهد جزاه الله خيرا على سعادة الدكتور بأن يقرأ التحقيق وأن يطلع على ما ذكره فضيلة الدكتور علي بن نفيع العلياني أستاذ العقيدة والدراسات العليا في جامعة أم القرى والمدرس في المسجد الحرام حول الموضوع نفسه، وهو صاحب تخصص في هذا المجال وفي التحقيق نفسه، وكذلك ما تفضل به فضيلة الدكتور إسماعيل الميمني منسق كلية العقيدة وأصول الدين في جامعة أم القرى، وهو أيضا من أهل الاختصاص والعلم في هذا الشأن. وكذلك ما ذكره فضيلة عضو هيئة التدريس في جامعة الملك عبد العزيز الدكتور سعيد بن ناصر بن سعيد الغامدي في نفس التحقيق وحول الموضوع نفسه. وأخيرا ما تفضل به سعادة الدكتور عمر بن إبراهيم المديفر استشاري ورئيس قسم الصحة النفسية. لقد تحدث الجميع جزاهم الله خير الجزاء بالأدلة والبراهين وأحاطوا بالموضوع من جميع جوانبه، وقد كفوني عناء مناقشة سعادة الدكتور طارق السويدان وإبراز أدلة هذا الأمر لسعادته. وقرروا جميعا بجواز التلبس وإمكانية حدوثه. ولكني سأزيد على أقوالهم ليكتمل الأمر وتقوم الحجة سائلا الله جل في علاه أن ينير البصائر وأن يشرح الصدور:- 1 عن يعلي بن مرة رضي الله عنه قال: رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ما رآها أحد قبلي، ولا يراها أحد بعدي، لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها فقالت يا رسول الله: هذا الصبي به بلاء وأصابنا منه بلاء يؤخذ في اليوم لا أدري كم مرة. 2 قال: «ناولينيه» فرفعته إليه، فجعله بينه وبين واسطة الرجل، ثم فغر (فاه) فنفث فيه ثلاثا وقال: (بسم الله، أنا عبد الله، أخسأ عدو الله). ثم ناولها إياه، وقال: (القينا في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل) فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها ثلاث شياه، فقال (ما فعل صبيك؟) فقالت والذي بعثك بالحق ما أحسسنا منه شيئا حتى الساعة، فاجترر هذه الغنم. قال أنزل فخذ منها واحدة ورد البقية. هذا الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله برقم 1/874. وقد أورد الإمام أحمد في مسنده 4/170 والمنذري في الترغيب 3/158 وغيرهم والحديث لا غبار على صحته، ولا مجال لإنكاره ورده، ولا يمكن التغافل عن وضوح معناه. وفي الحديث عبر كثيرة، نأخذ منها فقط قوله صلى الله عليه وسلم (بسم الله أنا عبد الله أخسأ عدو الله) ونفثه صلى الله عليه وسلم في فم الصبي. أليس في هذا إشارة واضحة إلى أن الصرع الذي كان يصيب الصبي هو المس الشيطاني الذي تعتبره أنت يا سعادة الدكتور خرافة وكهنوتية. 2 عن عثمان بن العاص رضي الله عنه قال: (لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ابن أبي العاص»؟ قلت: نعم يا رسول الله قال: «ما جاء بك»؟، قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلواتي، حتى ما أدري ما أصلي، قال: «ذاك الشيطان»، أدنه، فدنوت منه، فجلس على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال: (اخرج عدو الله)، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: (الحق عملت). يقول الشيخ الألباني رحمه الله بعد إثباته لصحة الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2918: وفي هذا الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ويدخل فيه ولو كان مؤمنا صالحا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وقوله (اخرج عدو الله) كان حديثا مباشرا لكائن يفقه ويسمع ويخاطب، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب سرابا أو خيالا وحاشاه عليه صلاة ربي وسلامه أن يتوهم. وهذا الحديث والذي قبله يثبت صحة دخول الجن إلى جسد الإنس وحقيقة التلبس، وأن الخرافة هنا لا تتعدى حدود عقل منكر «هذه الحقيقة» وعلمه الذي استقى منه إنكاره. وأتمنى من سعادة الدكتور أن يفيدنا بفهمه لمعاني قول الله جل في علاه: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).. سورة البقرة آية 275. وتفسيره لقول الله تعالى: (إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) وهناك أدلة أخرى كثيرة منها حديث المرأة السوداء الصحيح الثابت. وحديث أم إبان بنت الوازع بن زارع بن عارم النجدي. وغيرها من الأدلة الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها خشية الإطالة إلا أن الحق أبلج لا شبهة حوله ولا يمكن لسعادته أن يحجب ضوء الشمس بغربال.. أسأل الله لي وله وللمسلمين الهداية. السويدان وتلبس الجن بالأنس وختاما نصيحة محب لسعادة الدكتور السويدان بأن يعود إلى صفحة التحقيق نفسه ويطلع عليها وكذلك فهو رجل مثقف وعالم بارز وهذه اللغة التي تحدث بها لا تناسب اسمه ولا مكانته حول أمر شرعي ثابت. ونحن نحبه ونحب أمثاله من الذين يشار إليهم بالبنان ولا نرضى أبدا لمثله بمثل هذا الخلل والزلل خصوصا إذا عارض ما صح وثبت من أمور دينه. وأسأل الله جل في علاه أن يرينا جميعا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. «*» كاتب في جريدة الرياضي ومعد صفحة تداوي.