قراءات عديدة جاءت حد الاتفاق والاختلاف في الرواية قالها الرواة والإعلاميون عن حياة فنان العرب محمد عبده الاجتماعية والإنسانية، إلا أن هذه الحياة كان ينقصها دوما جوانب عدة لتكون أمام الملأ من محبيه وعشاق فنه وتكوينه الخاص. أقرب من يعيش إلى جانب محمد عبده من النقاد والإعلاميين يقول: «إن هذا الأمر طبيعي جدا»، كون حياته «كتابا مفتوحا» أمام الكل، وفي الوقت نفسه «مغلق جدا» أو مغلق مؤقتا بانتظار الكشف عن جوانب جديدة ينوي هو الكشف عنها بين فترة وأخرى، وهذه الأخيرة واحدة من ملامح ذكاء محمد عبده وريث «مالئ الدنيا وشاغل الناس» وممثله في العصر الحديث عند المثقفين والعامة على حد سواء. واقع الأمر أن المتغيرات الاجتماعية في حياة محمد عبده هي من تنفض الغبار بين فترة وأخرى عن الحديث والخوض في جوانب اجتماعية عن حياته كنجم، ومن هذه المنعطفات رحيل والدته السيدة سلمى نصر الله رزق الله.. الحديث الذي جعل الجميع يتعرف على العلاقة الإنسانية الوطيدة بينه ووالدته وإلى أي مدى كان الود عامرا بينهما، وأنها كانت مضرب مثل في «البر والعرفان» بالجميل وحق الرعاية في حال البؤس واليتم. وهي الحال التي لم تكن بمجهولة وخفية عن محبي محمد عبده، يومها تعرف كثيرون ممن لا يعرفون الحياة الخاصة له وعلاقته بالوالدة، الأمر الذي تكرر أخيرا عند رحيل شقيقته الكبرى فاطمة أرملة أحد أسماء الأسرة الذين كان لهم دور في المرحلة التأسيسية لفنان العرب.. زيد سالم رزق الله «زوج شقيقته» التي كان لها دورها الكبير في نشأة أشقائها. كيف لا وهي التي اكتسبت دور الأم وهي تساعدها برعاية ونشأة الأسرة في حياتها وبعد رحيلها. الخالة فاطمة الخالة فاطمة اسم ترك رحيله الكثير من الفراغ في وجدان كل أعضاء الأسرة الكبيرة عند محمد عبده، وأيضا في مساحة المنزل الذي حرص محمد عبده على أن تكون ساحة وفناء هذا البيت تتناسب مع أفئدة وقلوب سكانه، وموحدة في الوقت نفسه مع خصوصية كل أسرة في سكنها. كانت فكرة نفذت بشكل متميز حفظ لقب «الخالة فاطمة» لهذه الشقيقة الكبرى لمحمد عبده وعثمان وأحمد وكل أفراد الأسرة أبناء وبنات وأحفاد وأبناء خالة وأبناء عمومة، الأمر الذي صعب على كل أولئك غياب «الخالة» أم عبد الله وأحمد زيد، بل وأم معظم أبناء الأسرة الذين لا يستمتعون اليوم برجع الصدى وهم ينادون «الخالة والمربية». ومن الحكايا التي تحكى للإعلام يقول محمد عبده: «رحم الله أم عبد الله، كانت بالفعل هي «الأم الثانية» لنا جميعا إذا صح التعبير، فلقد أدت دورا كبيرا إلى جانب الوالدة في كل الأنشطة الاجتماعية والأسرية وكل ما يهمنا منذ الصغر، وما لا أستطيع نسيانه فرحتها الكبيرة في مناسباتنا الخاصة مثل زواج أخي أحمد ثم زواجي أنا، بالفعل كنا نشعر أن لدينا والدتين وليست واحدة، وأنا شخصيا لي الكثير مما يروى إعلاميا ومما لا يروى». قصة الطشت يتدخل الشقيق الأصغر أحمد ليروي حكاية أخرى عن «الخالة»، فيقول: «هناك رواية أرى أنها من المحكيات الممكن طرحها، حدث أن كان محمد مرتبطا في حفل مجاملة لمناسبة فرح صديق في بداية حياته الفنية، وحدث يومذاك أن كانت الوالدة «زعلانة» ولا أقول غاضبة من محمد.. لا أدري ما السبب، لكنها لم تقم بدورها المعتاد تجاه محمد في ارتباط ومناسبة كمطرب، حيث تكون آخر من يراه خارجا من المنزل لتعدل له «غترته». «في تلك المناسبة لم تكن تريده أن يذهب، ولم تغسل له ثوبه أو «تكويه»، وبعد محاولات استرضاء عديدة لم يتمكن أثرها أن يعيد المياه إلى مجاريها. أخذ «الطشت» على رأسه قاطعا الحارة من بيتنا في عمارة سفر «شارع الميناء الهنداوية» إلى الناحية الأخرى، حيث تسكن أختي فاطمة خلف محطة أبو الجدايل التي لم يكن لديها «طشت» في تلك الأيام لتغسل له ثوبه وتكويه ويذهب إلى مناسبته التي ارتبط بها. محمد عبده الذي تعرفه اليوم بالتزامه في مواعيده وكلمته مع المتعاملين معه هو نفسه في بداياته وهذا نهج حياته، والأهم أنه بعد أن ذهب إلى الحفل وأحياه استرضى الوالدة التي دعت له بالتوفيق قبل ذهابه». صاحب صاحبه ويحكي ابن عمه محمد صديق عن الراحلة «الخالة فاطمة» وعن علاقته بمحمد عبده وهو الذي يعمل معه: «أول ما يشار إلى محمد عبده في الجوانب الإنسانية والاجتماعية أنه «صاحب صاحبه» و «أخ قريبه»، فكل درجات القرابة لديه تصل إلى الأخوة، فها أنت ترانا كل أقربائه نعمل في شركاته المختلفة، ويرعى مصالحنا بشكل مباشر». ويذكر ابن عمه «أنني عندما كنت صغيرا وفي بدايات نجومية محمد عبده كان يكلفني إذا كان نائما أن استقبل زواره ومحبيه من زملائه في «الوسط»، وأوصاني في يوم إن جاء زميله الفنان علي هباش رحمه الله أوقظه من نومه لعمل مهم وارتباط بينهما، وظل في ذاكرتي أن علي سيأتي وحيدا، جاء علي ومعه مجموعة من الزملاء ولم أكن أعرف شكله يومها استضفتهم وتركته نائما حتى ودعوني مغادرين ولم أعرف من جاء ومن ذهب». جلسة البلوت ويصور ابن أخته أحمد زيد العلاقة بينه وخاله محمد عبده: «بالنسبة لي هو كل شيء اليوم، كما هو في الأمس أيضا بعد رحيل والدي وأنا في ال 12 من عمري ثم شقيقي الأكبر عبد الله والآن والدتي، هو كل شيء بالنسبة لي، وأنا مرتبط به دائما، لا سيما من خلال صالونه الأسبوعي «كل جمعة» في غير أيام أسفاره، حيث يلتقي بأصدقائه الأقرب في جلسة البلوت من إعلاميين وفنانين»، وتجمع في العادة كلا من: محمد شفيق، سامي إحسان، عبده مزيد، محمد شاكر، عبده خال، فريد مخلص، علي مختار، ووجدي بشاوري وغيرهم. ويمضي زيد قائلا: «كثيرون اختلفوا، بل ووصل الحد عند بعضهم إلى المراهنة حول من يكون محمد عبده؟ لا يكفي البعض أن يعرف عن محمد عبده أنه من مواليد كذا أو في تاريخ كذا بدأ حياته الفنية على هذا النحو أو ذاك وأول أغنياته كانت كذا، وإذا أحببت التوسع أكثر في التعريف بجذوره وعائلته التي إليها ينتمي والبحث في شخص فنان العرب ليعرف محبوه والناس بشكل عام أنه رجل «عصامي»، وعندما كان طفلا وفتى يافعا كانت صفته العصامية أيضا. عرف محمد عبده كل حالات الحياة العصيبة بدرجاتها المختلفة، حتى وصل إلى المرفهة وما يصاحبها من راحة أو تنغيص». صياد بسيط ولد محمد لصياد بسيط امتهن البحر في جازان، وأشقاؤه: فاطمة، عثمان، وأحمد. في نشأة محمد عبده الشخصية والفنية سكن كل أولئك في منزل زوج شقيقته الكبرى «زيد سالم رزق الله»، الذي كان شهيرا بدوره في حي السبيل جوار العمدة «أبو صبع» الذي كانت له شخصيته وهيبته، أما شهرة زوج شقيقة محمد عبده فتعود لكونه سائق الحي«الحارة»، الكل يتصل به لأجل مشوار يريحهم فيه من عناء البحث عن «تكاسي» في تلك الفترة. وزيد هذا كان قد توفي مبكرا بعد إنجاب حياة وعبد الله رحمه الله وأحمد، وله فضل في تربية محمد عبده وتنشئته، كما كان العم زيد يعني الشيء الكثير لمحمد عبده المعروف عنه حفظه للجميل، فلقد رعى بدوره أبناء الراحل «أبناء شقيقته»، الراحلة أخيرا فاطمة، كما رعاه في أواخر عمره شخصيا عندما كان يشكو من «البواسير»، وسافر به القاهرة وتحديدا مستشفى دار الشفاء الذي تعالج فيه عبده مطلع السبعينيات الملادية من القرن الماضي. ومن المصادفات أن العم زيد مات في المستشفى نفسه في فترة علاج لاحقة من مرض ألم به. ويذكر في المناسبة أن محمد عبده في تلك الفترة كان لا يسكن إلا في «سويت» معين في فندق شيراتون القاهرة غرفة رقم 1013 عندما كان يشرف على الفندق الإداري الشهير سامي الزغبي، وكان يومذاك متزوجا من الراقصة نجوى فؤاد، ويذكر أيضا أن سامي كان سبب تصوير محمد عبده أغنية له بمرافقة نجوى فؤاد التي كانت ترقص عليها «أسمر عبر». وقع خاص أما لقصة رحيل والدة محمد عبده متأثرة بمرض عضال، فهي قصة مختلفة وذات وقع خاص، فهي أكبر من علاقة ابن بار بأمه المريضة التي كانت سببا مباشرا في رعايته وصناعة «رجل» من ذلك الفتى اليافع، ثم صناعة فنان ذي تاريخ كبير من ذلك الفتى. سلمى أو سلام كانت أشبه بمصنع للرجال، وعلاقة الحب الكبيرة التي جمعتها بأبنائها تكاد تكون أسطورية، فمحمد عبده رغم كل انشغالاته كانت أولى اهتماماته والدته في حلها وترحالها في ارتياحه وسلامتها ومرضها، كمن كان هو أقرب أبنائها إليها تتابع خطواته وتساعد على نجاحه وتخشى عليه من أقرب المتعاونين معه وأساتذته من الوقت الذي يقضونه معه حتى في فترة تأهيله فنيا مثل عمر كدرس وغيره. ويمكن العودة هنا إلى حكاية جديرة بأن تروى: «طلال مداح رحمه الله قال لي مرة بحضور محمد صادق دياب: إن أم محمد عبده هي التي تفوقت علي في ظل صراعنا الفني على القمة، لقد نظمت له حياته وكل شيء في الشؤون الاجتماعية والفنية وكادت تكون الإدارية أيضا. ومن دلائل الإخلاص في هذه العلاقة بينه وبين والدته ذلك الحال والمتابعة لها طوال سنين مرضها بين مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض ومستشفى الداغستاني في جدة وهو المستشفى الذي توفيت فيه والدته بعد صراعها المرير مع المرض العضال». رحيل الوالدة بعد أن عاد محمد عبده بأمه من الرياض إلى جدة متنقلا بين المستشفى والبيت الذي كان قد انتقل إليه حديثا في حي «الروضة»، تعرضت لأزمة صحية حادة، فاتصل بطبيبتها في مستشفى الداغستاني الدكتورة عايدة ليعلمها بالحالة فوجدها في نزهة مع زوجها في كورنيش جدة.. قطعت الحالة الاستجمامية لتتجه إلى منزل محمد عبده، حيث طلبت نقل والدته فورا إلى المستشفى، وهذا ما حدث، حيث رافقها محمد وأخته فاطمة وهناك حجز غرفة بجوار غرفة والدته، واتصل بأخيه أحمد لأن يرسلوا له «مخدات» ولحف إضافية وشراشف، وفي المساء التالي فجأة يلتقي محمد عبده بأخته فاطمة لتقول له: إن الوالدة قد توفيت بين ذراعيها. كانت ردة الفعل الأولى أن غضب وصاح دون أن يهدأ، فالحالة كانت صدمة. كان كل ما يقول: «وليه ما تقولي لي كيف تغمض أمي عينها لآخر مرة دون أن أراها وهي تغمض وأن أكون وياك ملء عينها وهي تغادر». فجأة هدأ بعد كلمة واحدة من فاطمة «وكيف لي أن أعرف ساعتها».. استغفر محمد عبده الله، وعاد إلى وعيه يردد «الحمد لله، رغم أنه لم يفصلني عنها إلا جدار بين الغرفتين لم تكتب لي تلك اللحظة».. فانكفأ على جثمان أمه ليبكي طويلا وهو يحتضنها. كان ذلك في العام 1412ه، وكانت اللحظة وقت العصر. تحرك الجميع إلى المنزل بمرافقة الجثمان وبصورة سريعة في وقت كانت تتم فيه إنهاء إجراءات الأوراق والدفن. وأشرف محمد عبده على غسيل والدته وتكفينها في مساحة كبيرة من المنزل في ساحة المطبخ، ثم صلى عليها صلاة المغرب في مسجد الإخلاص الملاصق لمنزله، لتتحرك الجنازة برفقة محمد عبده وأخويه عثمان وأحمد ونفر قليل من أصدقائه، كان منهم ياسر سلامة والشاعر سعود سالم. تحركت الجنازة في سيارة GMC إلى مكةالمكرمة لتلحق بصلاة العشاء، حيث صُلي على الفقيدة بعد الصلاة في الحرم المكي، وأدرك الجميع الصلاة مع الجثمان في الحرم، ومن هناك انطلقت الجنازة إلى المدينةالمنورة، حيث صُلي عليها في المسجد النبوي الشريف صلاة الفجر، ودفنت هناك خلف مقابر أمهات المؤمنين ال «11» قبرا. الأسرة والذرية والد محمد عبده توفي وهو لا زال طفلا صغيرا، فتكونت أسرته من الوالدة وعثمان الشقيق الأكبر المتزوج من ابنة خاله «عبيدة» ولم ينجب أبناء، وأحمد المتزوج من ابنة عبده عامر من جيران النزلة اليمانية في جنوب غرب جدة. أما ذرية محمد عبده فتتألف حتى الآن من سبعة، فضل محمد عبده اختيار الأسماء بشكل تطريزي، وكأن أسماءهم قصيدة مطرزة على هذا المنوال: أولى ذريته «نورة» فهو أبو نورة، وهو أبو عبد الرحمن أي أن ابنته نورة عبده ثمانية أحرف اختارها أو حدد أن تكون جميع أسماء أبنائه فيما تبع نورة في نفس تسلسل حروف نورة عبده.. بمعنى تطريز: ن: نورا. و: ود. ر: ريم.ه: هيفاء. ع: عبد الرحمن. ب: بدر. د: دلال. ه ... . أي أن الابن القادم أو الابنة إذا كتب الله، سيكون مبتدأ بحرف «الهاء»، وهذا ما أكده لي في إحدى المناسبات التي أكون في الغالب أحد أطرافها. وبالمناسبة من الضروري هنا التنويه بتربية محمد عبده ومتابعته دراسة أبنائه وحضوره ملتقيات الآباء أحيانا وحفلات النجاح وما إلى ذلك في مدارس الفكر في جدة، حيث يدرس ولداه عبد الرحمن وبدر.