ما هذه الدنيا بدار قرار في الساعة العاشرة من يوم الاثنين الرابع عشر من شهر شوال من سنة ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين للهجرة النبوية وبينما أنا مستعد للنظر في قضية كلفني بها شيخي عبدالعزيز بن علي الناصر -وفقه الله- قاضي المكتب التاسع والعشرين في المحكمة العامة بالرياض والذي ألازم عنده في هذه الفترة وإذا بجوالي يرن فأنظر إليه فأجد رقم الأخ فيصل بن علي فأرد عليه فيخبرني بأمر أشد علي من وقع السيوف ألا وهو وفاة والده العم الوالد الثاني لي علي بن زيد بن رشيد العقيلي الخالدي (أبو زيد) -رحمه الله- ذلك الرجل والشيخ الكبير في كله الذي برحليه تذكرت قول الشاعر:- لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد شيخ يموت بموته خلق كثير فبموته فقدت كثيراً من معاني الصدق والزعامة والذكاء والدهاء والنباهة والحجة الدامغة وقوة الشخصية وسرعة البديهة والشدة والشجاعة في الحق والسداد في الرأي والمنطق ومعرفة الواجبات والقيام بها والوفاء وحفظ عرض الابن والأخ وابن العم والصديق والفزعة والنخوة والحمية والشيمة والقيمة والكرم والتواضع والسماح والتسامح وصفاء القلب ونظافته وإدراك أخبار العرب وأنسابهم وعاداتهم وتقاليدهم وتمييز الرجال وكل ذلك كان الفقيد متحلياً به صدقاً وقد تيقنت من ذلك لما لازمته ملازمة الولد لوالده في السبع السنوات الأخيرة من حياته وتحديداً من سنة 1426ه إلى وفاته -رحمه الله-. ومما هون علي مصيبتي بفقده وأذهب عني الحزن العظيم ذلك البياض المضيء في وجهه الذي رأيته لما شاركت في تغسيله مع ابنه الدكتور عبدالعزيز في مغسلة جامع الراجحي بالرياض الذي صلينا فيه عليه بعد صلاة العصر من ذلك اليوم ودفناه في مقبرة المنصورية في جنوبالرياض وقد أنزله في لحده الوالد عبد الله بن زيد -حفظه الله- مع ابنه الأخ فيصل، وما هذا البياض المضيء وتعجيل جنازته إلا دليل على رضا ربه عنه إن شاء الله تعالى مع ما يرجى له من تكفير حاصل له بإذن الله بسبب الأمراض التي تتابعت عليه بعد إجراء عملية له بالقلب ناجحة في مستشفى التخصصي قبل ستة أشهر لكن تتابع الأمراض عليه بعد ذلك جعلته يلازم المستشفى من تلك المدة حتى لقي ربه وله من العمر ثمان وثمانون سنة - رحمه الله تعالى- آمين. والعم الوالد علي -رحمه الله- كان من يجلس معه يعجب من فصاحة لسانه وقوة حافظته وذاكرته واطلاعه على قضايا العصر وإلمامه بأخبار العرب وأنسابهم وأنساب الأمم الأخرى والتاريخ الحديث والقديم مع أنه أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وإذا أملى خطاباً ثم اطلعت عليه قلت هذا خطاب شخص يحمل كبرى الشهادات العالية وهذه هبة من الله له. والعم الوالد علي -رحمه الله- ولد في الحلوة وهي بلدة أسرته العقيلي ويقال لهم العقيلات أو العقالا من بطن الجبور من بني خالد وكان ميلاده سنة 1344ه كما نقل ذلك تكراراً ومراراً عن أخيه الأكبر من جهة أمه وهو تركي بن عبد الله آل تركي -رحمه الله- الذي كان مرجعاً في تاريخ الحلوة وأنساب أهلها، وكان العم علي يذكر استفادته كثيراً من أخيه تركي ويترحم عليه ويثني عليه في ذكائه وقوة حجته، وتركي -رحمه الله- من مواليد الحلوة ونشأته وحياته كانت فيها عند أخواله العقيلات، وإلا فأسرته الكريمة آل تركي من بني حنيفة من أهل القويع البلد المجاورة للحلوة. والعم الوالد علي نشأ نشأة صالحة في بيت والده في الضبيبية بالحلوة، فوالده زيد بن رشيد -رحمه الله- كان من المعروفين بالديانة والصلاح وكان مؤذنا محتسباً في مسجد عسيلان في الحلوة، وقد توفي في الحلوة قبل سنة جبار 1360ه ودفن في مقبرة البليعية، وقد أنجب ثلاثة أولاد العم محمد (أبو زامل) وهو الأخ الأكبر للعم علي من جهة أبيه، وكان العم علي يكثر من الترحم على أخيه محمد ويبكي عند ذكره ويذكره بصفاء القلب والسريرة، والعم الوالد علي، وأخوه الصغير الشقيق عبدالله الذي توفي وهو صغير -رحمه الله-. وأما والدته فهي نورة بنت رشود بن عيسى العقيلي وكانت من سيدات النساء في الحلوة، وكان والده العم رشود بن عيسى من شجعان الرجال ودهاتهم، وكان العم علي يذكر كثيراً بأنه يشبهه في صفاته هو وأخوه الأكبر من جهة الأم وهو تركي المذكور آنفاً على حسب إفادة والده وكبار أسرته وأعيان بلده الحلوة، لأن جده رشود مات قبل ولادة العم علي. والعم الوالد علي من نشأته المبكرة وهو يجالس كبار أعيان بلدته الحلوة وعلى رأسهم أمير الحلوة في عهد الملك عبدالعزيز علي بن عبدالرحمن بن إبراهيم بن خريف -رحمه الله- وكان كثيراً ما يصفه بقوة الرأي والعقل وحسن السياسة والتدبير في إمارة الحلوة كما جالس كبار وأعيان أسرته العقيلات كالعم محمد بن عبدالرحمن بن زيد العقيلي -رحمه الله- وكان يصفه بالوالد له لأنه كان يعطف على شباب أسرته ويعدهم كأولاده من خلال مجلسه العامر في الضبيبية، كما جالس العم محمد بن زيد بن مانع العقيلي وكان يكثر من الثناء عليه وإعجابه وتأثره بحميته وشخصيته القوية وتوفر صفات الزعامة فيه، كما جالس العم عبدالله بن زيد بن مبارك العقيلي والمشهور بعبود وكان يصفه بالكرم والهدوء وحسن الرأي، وكان من عادة العم علي -رحمه الله- إذا ذكر عنده كبار أسرته أو رجالاتهم السابقون دمعت عينه وترحم عليهم وذكر صفاتهم الحسنة. ولما شب العم والوالد علي انشغل بكسب الرزق في الجمالة والحطب في بلاد نجد، وقد خالط فيها كثيراً من القبائل والعشائر وعرفهم وسبر طبائعهم وأحوالهم وأخبارهم، ومن تلك القبائل التي داخلها وعرفهم وعرفوه جيداً لما كان يجوب السهل والوعر آل بريك والشكرة وآل عمار والفرجان من الدواسر والقبابنة وغيرهم ولقد واجهت كثيراً من أعيان ورجال هؤلاء القبائل فإذا جاء ذكره أثنوا عليه وعلى شجاعته وقوته وحميته لابن العم والخوي والرفيق -رحمه الله-. ولما بدأت الوظائف الحكومية في السبعينات الهجرية التحق بالجيش السعودي في السيح بالخرج ثم نقل إلى خميس مشيط ثم إلى نجران ثم إلى الطائف ومكث فيه ما يزيد على عشرين سنة حتى تقاعد في بدايات هذا القرن الخامس عشر فعاد إلى نجد وسكن العاصمة الرياض حتى وفاته - رحمه الله-، وفي خدمته الحكومية كان مخلصاً لله ثم لولاة أمره ووطنه، وقد تعرف من خلالها على ولاة الأمر والتقى بهم عن قرب، فقد التقى بالملوك سعود وفيصل وخالد وفهد -رحمهم الله- خلال وظيفته، كما أنه التقى بوالدهم الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- قبل التحاقه بالوظيفة في مدينة الرياض وتحديداً في شارع الفوطة كما أخبرني وسلم عليه وعرض عليه قضيته يومئذ وكان العم الوالد علي يومئذ شاباً يفعاً ولكن كان جريئاً مقدماً وقد حل مشكلته الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، كما أنه التقى بخادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- أكثر من مرة وكذلك ولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبدالعزيز -حفظه الله- والنائب الثاني الأمير نايف بن عبد العزيز -حفظه الله- وأمير الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- وغيرهم من أصحاب السمو الملكي الأمراء وكان في لقاءاته معهم معلناً الولاء والمحبة بأسلوب رصين وكان لا يردون له طلباً -رحمه الله وعفا عنه- وكان كثيراً ما يأتيهم في مشاكل وقضايا لأسرته العقيلي أو بعض رجالاتها وينهيها -رحمه الله- وقد حضرت شيئاً من هذه اللقاءات في آخر حياته -رحمه الله-. كما أن العم الوالد علي -رحمه الله- التقى بكثير من العلماء وطلبة العلم واستفاد منهم كسماحة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد -رحمه الله- وكان معجباً بقوة ذكائه وحافظته، وكالشيخ حمود بن إبراهيم الشويعر -رحمه الله- جاوره في حي الشرقيةبالطائف وكان معجباً بقوته في الحق وحسن كرمه لضيوفه وأخبرني بأنه سأله عن عادة القبائل والعشائر العربية في الذبح للضيف -وكان الشيخ حمود ممن يفعله كثيراً- وأن البعض يعد ذلك من الإسراف فأجابه الشيخ حمود بما نصه (يا العقيلي هذه هدايا في الإسلام والإسراف في وضع الذبائح في مكان القمائم والزبالات لا تقديمه ليأكل الضيف والقريب والجار والصديق والمحتاج ففي ذلك أجر كبير) أ.ه. كما أن العم الوالد علي -رحمه الله- خلال حياته التقى بكثير من مشائخ القبائل كالشيخ نادر بن عبدالله بن نادر شيخ آل حنيش من الوداعين الدواسر وضيفه في بلاد الحلوة وهو ما زال صغيراً وكالشيخ جابر بن حسين أبو ساق -رحمه الله- شيخ شمل آل فاطمة من يام لما كان في نجران وكان معجباً بشخصيته وقوته، كما جاور الشيخ محماس بن عجير بن مهرس -رحمه الله- شيخ شمل الشدادين من بلحارث في حي الشرقيةبالطائف لما كان مقيماً فيها، وكان يثني على كرمه وحسن سمته وسمت قبائله، كما جاور الشيخ تركي أبو عصية من كبار الحميان النفعة من عتيبة وهو عمدة حي الشرقية في الطائف، كما جالس الشيخ ماجد بن محمد بن عريعر -رحمه الله- شيخ شمل بني خالد. كما أنه -رحمه الله- جالس كثيراً من الأدباء والشعراء الأعيان والمشاهير لما كان مقيماً في الطائف كالشاعر محمد بن أحمد السديري -رحمه الله- الذي كان يصطاف سنوياً في الطائف والشاعر محمد بن صقر السياري -رحمه الله-، والشيخ ناصر بن عبدالرحمن العبيكان وأخوه السفير محمد العبيكان -رحمهما الله- كما أنه -رحمه الله- سافر إلى كثير من البلاد العربية والأروبية للعلاج كفلسطين ومصر والحبشة وإسبانيا وقد أكسبه ذلك سعة في الأفق والتفكير والثقافة قل أن تجدها عند أمثاله وأقرانه في السن. وكان العم الوالد علي -رحمه الله- آية في معرفة القبائل والحمائل في الجزيرة العربية ومرجعاً في ذلك يعرف ذلك كل من جالسه وخالطه، ولما سكن الرياض كان يتلقى الاتصالات من الشيخين حمد الجاسر وحمد الحقيل -رحمهما الله- للاستفسار عن بعض أنساب القبائل والأسر، وفي آخر حياته وتحديداً سنة 1428ه وضع شجرة لأسرته العقيلي من الجبور من بني خالد أهالي الحلوة. ومن أشهر الطبائع التي كان يملكها -رحمه الله- حبه القوي وحميته الشديدة لأسرته العقيلي من بني خالد لا يجنح عن ذلك قيد أنملة كما كان محتفياً ومعتزاً بمسقط رأسه الحلوة وشعابها ومقدراً لحمائلها وأسرها الذين يعرفونه جيداً، كما عرف بطبيعة التسامح والعفو لمن أقبل عليه ورجع في مواقف كثيرة تدل على صفاء قلبه وسريرته -رحمه الله- وكان -رحمه الله- مع قوته وصلابته في الموقف سريع الدمعة قوي التأثر بالمواقف التي تمر عليه، وقد تأثر جداً من وفاة ابنه الأكبر العم العقيد زيد -رحمه الله- سنة 1424ه وذهب كثير من بصره بسبب ذلك. ومهما أكتب عن العم الوالد علي -رحمه الله- فلن أوفيه حقه وسينخرس لساني وينكسر قلمي في تعدد صفاته وخصاله، فلا أملك له إلا دعاء الله له بالرحمة والمغفرة والرضوان، وأن يبارك الله في ولديه الأخ الدكتور عبدالعزيز -استشاري جراجة القلب في مستشفى الحرس بالرياض- والأخ فيصل وأحفاده أبناء العم زيد -رحمه الله- وسائر عقبه وأهله، وأن يعوضني عنه خيراً وإنا لله وإنا إليه راجعون. عبدالعزيز بن عبدالله العقيلي الخالدي الملازم القضائي في المحكمة العامة بالرياض وإمام وخطيب جامع الأمير عبد العزيز بن فرحان بحي بدر