عشق الإنسان القمر قبل ذلك بكثير، وفي أيام الجهل انحنى له متعبدا، ثم حين أضاف إلى معرفته بأنه يغيب، أنه يدور أيضا، اكتفى بمحبته، وجده مضيئا وهادئا وعاليا وعادلا في تقسيم الضوء، لا يفرق بين غني وفقير، فأحبه واحترمه، خاصة أن الشمس كانت قاسية دائما وفجة، وأقام الإنسان مع القمر علاقات مودة بدت حقيقية دائما، أكسبها الشعر الذي اخترعه أول الأمر تحديدا لهذا الغرض تلألأ مناسبا في محاولة إنسانية جادة لرد الجميل ولإثبات حسن النوايا أيضا، بعد نين طويلة تجرأ الإنسان في الحلم أكثر، باتت رغبته في امتطاء ظهر القمر أكثر تبرجا، وكانت الأغاني سلما مناسبا للصعود بالحلم ومن خلاله اختصرت (فيروز) ذلك بأغنية طفولية بريئة: (حبيبي بدو القمر .. والقمر بعيد .. والسما عالية .. ما بتطالا الإيد) وفي الأغنية تعرف العاشقة أن ثمن الحصول على القمر تتابع السهر لعشرة ليال كاملة، فتسهر خوفا من أن تدفع جارتها الثمن وتخطف الحبيب. في الجانب الآخر من العالم كان الإنسان يطأ بقدمه أرض القمر بأحذية سميكة بعد أن تأكدت له سهولة الأمر، فقد سبق له أن أرسل قردة وتبعها بكلب، وعادت القردة: قردة، وعاد الكلب: كلبا، وهو ما أكد للإنسان مسألتين مهمتين متعاقبتين، الأولى: إمكانية أن يعود، والثانية: أن يعود إنسانا كما كان، والنتيجة المؤكدة الثابتة فيما بعد هي أنه عاد فعلا، أما الثانية فهي محاطة بشكوك تتزايد يوما بعد آخر. وفي حكايات الهنود الحمر ارتبط القمر بالذئب كثيرا حتى يخيل إليك وأنت تقرأ هذه الحكايات أن ضوء القمر ليس إلا العواء أمكنت مشاهدته، وأن العواء ليس سوى الضوء وقد أمكن سماعه. وفي الشعر الشعبي وقد سبقه الفصيح إلى هذا نقرأ معاهدات أخوة إنسانية حاسمة مع الذئب تحديدا: (تخاويت أنا والذيب سرحان ... دعيته فمان الله وجاني)، لكننا وبعد قليل من الوقت نكتشف خيانة الإنسان للأخوة المعقودة وغدره بالمعاهدات المتبادلة، ففي نهاية كل حكاية تشرق الشمس أو تغرب على ذئب قتيل بيد بشرية ولا أثر لرسالة اعتذار إنسانية عن هذا الغدر، وكان على القمر أن يتعلم من شقيقه في حكايات الهنود الحمر على الأقل من الدرس، لكنه لم يفعل. يبدو أن ليس نصفه مظلم فحسب، ولكنه غبي أيضا، وقبل أيام قليلة كان عليه أن يتحمل نتيجة غبائه هذه وتقبل الطعنة في الخاصرة برمح بشري حديث عالي البرجمة، فعل الإنسان ذلك آملا في أن تسيل المياه من خاصرة القمر، فالإنسان ليس سوى مصاص مياه! وكالة بحوث الفضاء والطيران الأمريكية «ناسا» التي قامت بعملية تفجير مزدوجة ناجحة تمام الساعة السابعة والنصف ودقيقة من صباح يوم الجمعة الماضي بتوقيت الساحل الأمريكي الشرقي تأكدت من إحداثها لبرج ضخم من الغبار يزن (2200) كيلو غرام، ولم يتم التأكد بعد من وجود مياه كافية. أظن أنه وبدءا من هذا التاريخ على الأقل صار على القمر أن يكون أشد حذرا وأقل ثقة بكلمات الشعراء والعشاق من بني البشر، يمكنه فعل ما هو أكثر: رسالة صغيرة إلى مانحي جائزة نوبل تشكك في أحقية الرئيس (أوباما) بجائزة نوبل للسلام وربما تشكك بالجائزة نفسها، لقد كانت خطيئة الذئاب أنها تأخرت في كتابة مثل هذه الرسالة! من البعيد أكاد أسمع عواء ذئب يعوي بصوت مبحوح الضوء منكسر يقول: لكتابة الرسائل كان علينا أن نتعلم الكتابة أولا وقد كان بإمكاننا ذلك لولا أننا شاهدنا الإنسان الذي لم يعد بعد الكتابة قادرا على أن يعود إنسانا أبدا.