ما يبقى في الذاكرة محفوظا، ليس بالضرورة، أجود ما قرأت، أو سمعت، من الشعر، فللذاكرة منطقها الخاص، العاطفي غالبا ، و الاجتماعي أحايين كثيرة، غير أنه من المؤكد، إمكانية قراءتك، لشخصية الإنسان، من خلال محفوظاته، فهي ملتصقة بسيرته الذاتية، دون تقصد منه، وبالرغم من الإنسان، يجبر ، في مرحلة الدراسة، على حفظ كثير من النصوص، إلا أنه بعد زمن، يقصر ، ويطول، يجد نفسه محتفظا بأبيات، قليلة من هذه النصوص الأدبية، يرددها، مع أبيات كثيرة، مرت في حياته، فالتقطتها الذاكرة، وقررت، لسبب ما، الإبقاء عليها ، طرية، حاضرة على اللسان، دون جهد كبير ، من هذه الأبيات التي بقيت في ذاكرتي، ما يرتبط بقصة، أو حدث، أو مكان، ومنها، ما تسببت فتنته الخالصة ببقائه، في أماكن آمنة، ومنها ما لا أعرف له سببا مباشرا، لكنني كثيرا ما أردد بيت نزار قباني: (أنا لا أشبه إلا صورتي ... فلماذا شبهوني بعمر)، و أظن أنني أحفظ البيت، لأنه فتح لي دروبا كثيرة، جميلة، على القراءة، وعن طريقه، دخلت إلى قراءة الشعر القديم كله، الجاهلي، و الأموي، و العباسي، والأندلسي، وعن طريقه استعدت أحمد شوقي تحديدا وأنقذته، في داخلي على الأقل، من المقارنات المدرسية الظالمة، مع حافظ إبراهيم، وغيره من شعراء عصره، فقد أحببت الشعر ، عن طريق نزار قباني، الذي تعرفت إليه، من برنامج إذاعي، اسمه (بقايا الليل) تعده وتقدمه (منى طالب)، إذا انتصف الليل، من كل إثنين، في إذاعة الكويت، كان من الواضح أن نزار ، يشكل عبئا أخلاقيا، على المناهج المدرسية ، فلم أسمع بالاسم ، في غير الإذاعة ، لكنني اتجهت إلى دواوينه بسرعة ، في مكتبة العامة ، في الجهراء ، في الكويت، و هناك لقيت شابا، جريئا، يكتب شعرا محبا، وغزليا، فارق الفتنة، وحاولت سرقة مجموعته (قالت لي السمراء)، ثم خشيت العاقبة، فتراجعت، وقررت نقل بعض أشعاره، في كراسة خاصة، وبسرعة حفظت كثيرا من هذه الأشعار ، ليس من ضمنها البيت الشعري، الذي ذكرته قبل قليل، ولا أدري حقيقة، كيف أو أين، سمعت أو قرأت ذلك البيت، لكنه شدني كثيرا، أولا لأنني كنت أعتقد أن نزار قباني، لايشبه أحدا فعلا، و لا يقترب منه أحد، وثانيا لأنني أردت معرفة (عمر) هذا، الذي يتحدث عنه نزار ، و بسرعة عرفت أنه (عمر بن أبي ربيعة)، فما كان مني غير متابعة شعره، و قصائده، فتكونت لدي أول علاقة حميمة، مع شاعر قديم، من العصر الأموي الأول ، ولد يوم وفاة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسمي باسمه، و بعد ذلك بسنين طويلة، جاءت العبارة: (أي خير رفع، وأي باطل وضع) !، وعمر بن أبي ربيعة هذا، شاعر بديع وعجيب فعلا ، غزلي فاضح، و قصصي يحبك الحكاية الشعرية، بأسلوب عجيب، وهو تقريبا أول شاعر (شعبي)، فقد أدخل على الفصيح، أكثر من مائة كلمة (عامية)، فلم يعتد بشعره أهل النحو، و أسقطوه من حساباتهم تقريبا، وهو تقريبا أيضا، أول شاعر غنائي، فقد كتب معظم قصائده لتغنى، وهو متخصص في شؤون المرأة بشكل يكاد يكون أكثر عجبا من نزار قباني، صحيح أن الأخير كتب على لسان المرأة، شعرا كثيرا طيبا، غير أن أسرارها، لم تكشف لشاعر عربي، فيما أظن، قدر انكشافها لعمر بن أبي ربيعة، الذي كان مزهوا بنفسه أيضا، ومن أبياته الشهيرة، الدالة على ذلك: قالت الكبرى: أتعرفن الفتى قالت الوسطى: نعم هذا عمر قالت الصغرى وقد تيمها: قد عرفناه وهل يخفى القمر ؟! ويمكنك هنا، وبسهولة، ملاحظة فوارق الخبرة السنية، بين الفتيات الثلاث، فجميعهن يعرفنه، وكلهن متيمات به، لكن الكبرى أخفت معرفتها به، واكتفت بالسؤال، بينما الوسطى كانت أقل حذرا، فقالت: نعم هذا عمر، واكتفت بهذا، أما الثالثة، الصغرى، فقد كانت أكثر طيشا، وباحت بمكنوناتها دفعة واحدة.