•• وصلني هاتفه فرددت بنفس نغمته المميزة التي أحب سماعها منه «يا هلاً ومرحباً».. المُهاتِف ابنه يعزيني بصوت حزين بوفاة أبيه سيد الخُلُق والعلم.. ذلك الصديق الذي إن غبنا عنه بادر، وإن أغمضنا أعيننا عنه يأتينا عبر المسافات كصهيل فرس.. يأتينا بفسحة ضوء كأنه بدر منتصف الشهر.. غار قلبي في الوجد وودت الصعود إليك فوق سلالم اللهفة لأُقبِّل جبينك يا صديقي. •• الحياة تحمل تشكيلة عجيبة من البشر؛ من غسل يده عن الناس، ومن قلبه مغسول بحب الخَلق.. فئة شاردة لا تمثل الحياة؛ تظهر على وجوهها وجوم يشبه الأسى.. وفئة راشدة عاشت زمناًَ دون ضجيج تلامس السحاب لتحقق أحلامها وآمالها.. الراحلون منهم إلى بلاد اللاعودة؛ إما يبقون في الذاكرة كنسمة بديعة في نهار قائظ، أو يسقطون من الذكرى في دوائر الزمن الطاحنة. •• ذوو القلوب النقية والأرواح العذبة؛ نتسلل إلى حياتهم كما تتسلل رائحة الربيع من شقوق النوافذ.. هم كرماء كمطر يسقط علينا يبلل وجداننا بالانشراح.. هم نبلاء يجعلون المروءة لها معنى وجزءاً منهم.. هم أعضاد يجعلون من السعادة ديدناً لهم ولمن حولهم.. هم صُفَاة نستقي العلم والحلم والحكمة من تجارب حياتهم.. باختصار: هم الاسفنجة البشرية التي تمتص كل شيء له علاقة بالحياة. •• أما من يسن قوانين خاصة لنفسه يغرِّد بها خارج الدائرة؛ فسيعيش بأسلوب بدائي عن المدنيَّة الحديثة بكل صورها.. ومن يحيا بين نواعير مزرعة حياة لا يشاركها أحداً؛ سيفتح ممراً للآخرين هروباً منه.. ومن يغوص في مشاعره الشاجنة؛ سيحمل بداخله عبارات الكذب واحتقار الناس.. فمهما توغلنا في غاباتهم الأمازونية؛ سنحمل القناديل لنتفادى أغصانهم.. هؤلاء وُلدوا وعاشوا وقالوا، ثم مضوا من حياتنا.