تقوم إستراتيجية النَّمل في طلبه للرزق وجلبه الغذاء من الحبوب إلى مستوطناته على استغلال وتوظيف ما هو موجود من طرق كما هو معروف، دون الحاجة لشق طرق جديدة خاصة لتحقيق هذا الغرض، لكن المعروف عن النمل كذلك أنه يعمل باستمرار على تقليص المسافات وتيسير سلوك الطرق المؤدية إلى مصادر الرزق، والنمل ليس بحاجة لحملات توعوية وإعلامية لجمهور النمل بالخطط الجديدة والخرائط الجديدة التي يتعين على الحشود من النمل تبنيها والعمل بموجبها، حيث يتفرد النمل بخاصية امتلاكه مواد كيميائية يفرزها على الأرض فيمشي بموجبها النمل وكلما زاد عدد النمل، زادت كمية هذه المادة التي يفرزها النمل وهذا تلقائياً يجذب المزيد والمزيد من النمل بسهولة وبسرعة للطرق والمسارات المختصرة الجديدة التي يتم العمل بها أولاً بأول لضمانة دخول كل النمل سوق العمل. في المقابل، يتبنى النَّحل إستراتيجية مختلفة نوعاً ما عن إستراتيجية النمل في طلب الرزق وجلب الغذاء، فهو يقوم بدايةً بجولات استكشافية للبيئة المحيطة بحثاً عن مصادر الغذاء، عندئذ يقوم بإبلاغ بقية أسراب النحل عن تواجد الغذاء الجيد من خلال لغة خاصة يؤديها النحل وتفهمها أسراب النحل فتأخذ كل تعليمات جديدة من خلال الرقصة الخاصة فيتم العمل بموجبها، ويقوم النحل باستمرار بتحديثات مواقع الغذاء والنوعية الجيدة في سبيل تحديث المواقع الجيدة في البيئة المحيطة به مع ضمان أن النحل كله يدخل سوق العمل دون استثناء. يقدم النَّمل والنَّحل نموذجين مهمّين في محوريّة العمل الجماعي أولاً، مع أن لكلٍّ من النَّمل والنَّحل وسائل اتصال فعّالة مباشرة وغير مباشرة وذلك خدمةً للجماعة أو المجموعة أو المجتمع على قدم المساواة ودون تسريب معلومات مضللة ودون محسوبيات لأفراد العائلة والعشيرة والقبيلة والطائفة والمنطقة ودون الحاجة للواسطة والتوسط لأفراد الأقارب أو الأصدقاء والجيران، كل ذلك يتم من خلال قانون واحد فقط هو: إتاحة فرص العمل للجميع ونشر المعلومات عن تلك الفرص علناً وبالتساوي ودون مواربة أو تضليل وفي كل الأوقات ودون حاجة لواسطات أو محاباة أو محسوبيات أو شفاعات، ودون حاجة لنشر إعلان عن وظائف معلوم مسبقاً أنها لفلان وفلان إنما يتم نشرها للعلن امتثالاً لديكور القانون وليس لروح القانون، ولا حاجة لمعرفة مدير الموارد البشرية ودون حاجة لمعرفة القائمين على منصات التوظيف الحقيقية أو الوهمية ودون الحاجة للتسجيل في «لنكد إن» ودون حاجة ل«خبراء» كتابة وصياغة وتصميم السِّير الذاتية ودون الحاجة لأخذ تدريب في كيفية إجراء مقابلة وظيفية. نفهم الحاجة للشهادات العلمية والرخص المهنية في التوظيف، ونفهم الحاجة للمهارات والقدرات الخاصة لوظائف عن وظائف أخرى وقطاعات عن قطاعات، ونفهم أهمية تقديم سيرة ذاتية احترافية ومقابلة وظيفية شاملة وموضوعية، لكن كل هذه المعايير والاعتبارات تنطلق من منطلق واحد فقط وهو منطلق «رب العمل». وهذا يفرضه الدافع الاقتصادي الرأسمالي في سبيل تحقيق الحدود العليا من الربحية أمام المنافسة والأجور والتكاليف والتقنية والرقمنة والحوكمة والاستدامة...إلخ. ما لا نفهمه، هو غياب «نظام النَّمل» و«نظام النَّحل» اللذين يهدفان لدخول كل النَّمل وكل النَّحل لسوق العمل دون تمييز ودونما محسوبيات حيث ينطلق من منطلق اجتماعي - اقتصادي خدمةً لكل الشرائح والفئات غير المخدومة بآليات التوظيف الحالية، خاصة أولئك الذين هم على حافة الفقر مع أسرهم وعائلاتهم، وأولئك الذين هم في صراع الغريق قبل الغرق للبقاء فوق خط الفقر. إننا بحاجة لنظام توظيف آخر، بجانب أنظمة التوظيف المعمول بها حالياً، بحيث يتيح النظام الجديد فرصة الدخول والخروج في سوق العمل بيسر وسهولة في كل الأوقات لجميع أفراد المجتمع كل حسب قدرته، وذلك على قدم المساواة تماماً مثلما هو نظام العمل لدى «أمّة النَّحل» و«أمّة النَّمل» وذلك لتحقيق الحد الأدنى - على الأقل - من مستوى العيش والحياة الكريمة، ولضمان عدم انزلاق البعض للفقر والفقراء وصمام أمان للمجتمع ككل، بحيث يتمتع هذا النظام بشفافية عالية من نشر وإتاحة المعلومات دون مواربة ودون تضليل، وبحيث ينطلق من منطلق اجتماعي- اقتصادي، لا ينطلق من منطلق اقتصادي رأسمالي لا يقتصر على خدمة «رب العمل» فقط، وبحيث يكتسب العاملون فيه دخلاً مادياً يضمن بقاءهم فوق خط الفقر، كما يضمن اكتسابهم خبرة وحرفة ومهارات لا يمكن أن يتحصلوا عليها وفقاً لآليات التوظيف الحالية. صحيح أن العدالة المطلقة في السماء وليست في الأرض، لكنّ آليات التوظيف الحالية والقائمة لا يمكنها أن تفرِّق بين من يتقدم لوظيفة كي يحقق «الحد الأعلى» وبين من يتقدّم لوظيفة فقط ليحقق «الحد الأدنى»، بين من يريد أن يتوظف لينجح ومن يتوظف كي يعيش. مع إيماني المطلق بحق الإثنين في العمل. لهذا حان الوقت لدراسة إيجاد نظام توظيف اجتماعي - اقتصادي - كمي، بجانب نظام التوظيف المعمول به حالياً، يمثل صمام أمان للطبقة الوسطى المهمة لحفظ توازن أي مجتمع، بجانب أن ذلك يمكِّن كل فئات المجتمع من القدرة الشرائية المهمة لإتمام الدورة الاقتصادية ككل، بجانب أن ذلك يمثل ضمانة للاستدامة الأمنية الاجتماعية.