في كل ما تعيشه المملكة وتمر به من تحولات في العمق وفي المشهد، يمكن الوقوف عند بدايات تشكيل هويّات اقتصادية لبعض مناطق المملكة انعكاساً لنوع وحجم الموارد البشرية والطبيعية والثقافية لكل منطقة وترجمةً لمستهدفات التنمية في كل منطقة وتخطيطها الإستراتيجي. خلال هذا الصيف وما سبقه من إجازات تخللها شهر رمضان وإجازة عيد الأضحى، أتيحت لي فرصة التنقل بين أكثر من منطقة من مناطق المملكة والوقوف عند بعض مناسباتها ومنتجاتها الاقتصادية والثقافية ومناشطها، وهو ما جعلني ألمس تفاوتاً ربما من نوع آخر بين منطقة وأخرى بصرف النظر عن حجمها وعدد سكانها وميزانيتها وهو ربما ما يتعلق بأمانة المنطقة. تقوم أمانة المنطقة بالتخطيط وتوجيه التنمية الحضرية بما ينسجم مع الاحتياجات السكانية، الاقتصادية والاجتماعية، وتطوير البنى التحتية، والخدمات والمرافق العامة بالتناغم مع كل ذلك، وترتيب الأولويات حسب الإمكانات. بجانب الحفاظ على النظافة واستدامة الطاقة والبيئة والمياه وتحسين مستوى الصحة والتعليم وإدارة النفايات، وتوفير خطط الطوارئ لكل الاحتمالات، ومراقبة المظهر العام للمدن والتشوهات الناجمة عن النشاطات البشرية، ناهيك عن دور الأمانات في جذب الاستثمارات وتوفير بيئة استثمارية مناسبة وتسهيلات منافسة للمستثمرين، وفوق كل هذا لا بد للأمانة من القيام بالتنسيق بين المؤسسات الحكومية المختلفة ومعها في كثير من الأعمال والمهام والمؤسسات المجتمعية غير الحكومية. كما تقع على الأمانات مسؤولية إنشاء وتهيئة المناطق التجارية والصناعية والزراعية والرقمية والنطاقات الذكية، وتنظيم المشاركات الاجتماعية والمهرجانات الدورية والوقوف على آراء ومطالب السكان وتحسين جودة الحياة باستمرار. هذه أعمال كثيرة ومهام كبيرة تتطلب مهارات متعددة لا يمكن أن تتوفر كلها في شخص أمين المنطقة، كما لا يمكن أن تتوفق أمانة كل منطقة بكل الكوادر المهنية الشغوفة والمدربة والقادرة على القيام بكل هذه المهام. ولا يمكن أن تتساوى كل أمانات المناطق في إنجاز ما هو مطلوب منها وبالوتيرة الزمنية المحددة تبعاً لإمكاناتها. فهناك تفاوت كبير في القدرات البشرية وغير البشرية بما ينطوي عليه ذلك من استعدادات وقدرات ومهارات وتعليم وتدريب وخبرات وتجارب. ودون الإقلال أو انتقاص أمانات مناطق المملكة وأمنائها، سأذكر هنا بالاسم أمانة المدينةالمنورة لمعرفتي الشخصية بهذه التجربة عن قرب، وسأستشهد بأمينها المهندس فهد البليهشي كأحد الأمناء المبرزين في المملكة الذي استطاع خلال فترة وجيزة أن يضع بصمة واضحة في مسيرة أمانة المدينةالمنورة. من المؤكد أن شخص أمين المدينةالمنورة يملك قدرات وطاقات كثيرة أهّلته ومكّنته من خوض هذه التجربة الغنية، وهذا كلام سمعته شخصياً من عدد من المسؤولين في المدينةالمنورة، لكن السؤال الذي يبرز هنا: هل كان سينجح أمين المدينةالمنورة كل هذا النجاح مع كل قدراته وطاقاته وإمكاناته الشخصية والمهنية، لو لم يجد البيئة التنموية والاستثمارية والإدارية المحفزة والصديقة للنجاح في كافة الإدارات الحكومية في المدينةالمنورة وفي مقدمتها إمارة المدينةالمنورة؟ وهل كان سينجح أمين المدينةالمنورة، من دون توفر كوادر بشرية كافية وقادرة على معاضدته ومساندته وحمل خططه وبرامجه إلى مستهدفاتها داخل أمانة المدينةالمنورة وفي كافة طواقم الجهاز التنفيذي؟ من هنا، أجدني مقتنعاً بأن أقترح لوزارة الشؤون البلدية والإسكان ومعالي وزيرها أن يصار إلى برنامج مدروس يتبنى تدوير أمناء المناطق كل فترة من الفترات المدروسة، بحيث تتاح أكثر من فرصة لأمين كل منطقة من خلال معايشة تجارب أكبر عدد من المناطق أو كلها، فتكون الفائدة لكل أمين ولكل أمانة. فتستفيد كل المناطق من تجارب كل الأمناء ويستفيد كل الأمناء من تجارب كل المناطق. فالحكم على تجربة أمين المنطقة من خلال ممارسته العمل في منطقة واحدة قد لا يكون كافياً في ظل تعدد أسباب النجاح وعوامل الفشل، وبالتالي قد ينطوي على كثير من الإجحاف بحق الأمين وبحق الأمانة. إنني على يقين أن برنامج تدوير أمناء المناطق كلهم أو بعضهم، سيكون نقطة تحول في مفهوم التدوير الذي هو العمود الفقري للتدريب والعصب الرئيس للتمكين المتبادل بين العمل ومن يقوم به، خاصة إذا كان ضمن مؤسسة واحدة أو وزارة واحدة. أتمنى أن يجد هذا الاقتراح قبولاً؛ لأنني أعتقد أن نجاح التدوير في هذه الحالة سوف يفضي إلى التدوير في قطاعات أخرى كثيرة.