في ليلة طويلة عاشها الفرنسيون على وقع نتائج الانتخابات للبرلمان الأوروبي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية، أي البرلمان الفرنسي، والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة في يومي 30 يونيو/ حزيران و7 يوليو/تموز، أما السبب فهو الانتصار العريض الذي حققه حزب التجمع الوطني الذي يوصف بأنه يميني متطرف، حيث حصل على نسبة تفوق 32% بينما حزب الرئيس وهو حزب النهضة لم يتجاوز حاجز ال15 %. لكن ما فاجأ الفرنسيين هو ردة فعل الرئيس التي كانت بالفعل غير متوقعة ونظر إليها باعتبارها مغامرة أو حتى مقامرة، بل إن رئيس بلدية باريس ذهب أبعد من ذلك عندما وصف قرار الرئيس بأنه قرار غير مفهوم، بعض مناصري اليسار لم ينتظروا حتى الصباح فخرجوا ليلاً في وسط العاصمة الفرنسية باريس وتحديداً في ميدان الجمهورية تنديداً بقرار الرئيس، والدعوة إلى رص الصفوف لمواجهة اليمين المتطرف. بالعودة إلى أساس التطورات وهي انتخابات البرلمان الأوروبي حيث يمكن القول إن اليمين حقق مكاسب ولكنها لم تستطع أن تقلب الطاولة حيث حزب الشعب الذي ينتمي إلى يمين الوسط حقق الأغلبية ويستطيع أن يكوّن تحالفاً مع الاشتراكيين والديمقراطيين والخضر كما كان في البرلمان السابق، لكن بالطبع تقدم اليمين في إيطاليا والنمسا وهولندا والاختراق الكبير في فرنسا أمر مقلق للغاية لكل أولئك الذين يؤيدون مشروع الاتحاد الأوروبي. أما في فرنسا فوقع النتائج كان ثقيلاً على الرئيس الفرنسي وحزبه، ولكن الخطوة التي أقدم عليها ماكرون قد تفرش السجاد لليمين المتطرف للوصول إلى قصر ماتينيون (وهو قصر رئيس الوزراء) لأسباب عديدة أهمها خيبة الأمل التي يشعر بها المواطن الفرنسي جراء الأوضاع الاقتصادية السيئة وحالة التضخم التي يعيشها وتضاؤل القدرة الشرائية خلال السنوات الماضية، والكثير من الفرنسيين يحمّلون ماكرون مسؤولية تردي الأوضاع، كما أن الموجة اليمينية التي تعيشها أوروبا وكذلك فرنسا تبدو عاتية وبالتالي صوت المنطق كما الواقعية التي ينادي بها ماكرون قد لا تكفي وحدها لإقناع الغالبية بالتصويت للأحزاب الجمهورية. ازدياد الهجرة من جهة والعولمة الثقافية والاقتصادية التي فرضت نفسها على العالم الغربي كما الأزمات الاقتصادية المتلاحقة والحروب التي يشهدها العالم وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، كل هذا ساهم بانتعاش الخطاب اليميني الشعبوي الذي يصل إلى حد التطرف والعنصرية ويعِد باستعادة الخطاب الفاشي والنازي الذي اعتقد كثير من الأوروبيين بأنه مضى إلى غير عودة، لكن الخطأ الكارثي هو تبني كثير من السياسيين لمقولات اليمين المتطرف واعتبارها منهاج عمل وكأن يمين الوسط وأحيانا حتى اليسار التقليدي قد مهد الأرضية للتعايش مع اليمين المتطرف. ومن هنا فإن الدخول في لعبة الأرقام والنسب قد لا تعطي حقيقة المشهد في أوروبا، فاليمين لا يحظى بأكثر من ربع مقاعد البرلمان الأوروبي ولكن الأزمة أن كثيراً من أفكاره أصبحت منهاج عمل للأحزاب الأخرى منها رفض الهجرة وتراجع الاهتمام بالمناخ، فلم يحصل اليمين الشعبوي على الأغلبية العددية ولكنه حصل على الأغلبية الأيديولوجية. كما أن اليمين المتطرف وعلى امتداد الثلاثة عقود الماضية يكسب في كل مناسبة انتخابية زخماً جديداً فهو يتقدم ولا يتراجع وهذا يجعل مستقبل القارة العجوز ملبداً بغيوم التطرف والراديكالية. هنالك نقطة واحدة يمكن أن تشفع للرئيس الفرنسي قراره وهي أن الانتخابات التشريعية تقوم على أساس النظام الفردي وليس النظام النسبي المعمول به في الانتخابات الأوروبية وهذا يجعل الانتخابات ترتبط بالوجود المكثف للأحزاب وتماسها مع حياة المواطن اليومية مما يعطي أفضلية للأحزاب التقليدية على حساب الخطاب الدوغمائي الذي يميز اليمين المتطرف. ومع ذلك يبدو المركب الفرنسي وقد دخل في عاصفة هوجاء تتلاطمها أمواج التطرف والأزمات الاقتصادية والحروب التي تلوح في الأفق.