يعيد الكاتب اللبناني العربي الكبير سمير عطا الله، إحياء «ملوك العرب» لأمين الريحاني. من يقرأ لسمير عطا الله يتحفز على الإيغال في التاريخ، فالرجل صديق الملوك، يمتلك مخزوناً ثقافياً وأدبياً رفيعاً، ففي كل مقالة لديه منهلة، يمكنها أن تروي ولا تُشبِع. يمكن للرجل الآتي من جنوب جبل لبنان، وإحدى القرى الصغيرة المتربعة فوق تلة تظللها أشجار الصنوبر الذي يقال إنه قد جيء به من إيطاليا قبل مئات من السنوات، دارس القرآن وهو ابن الديانة المسيحية، لكنه اتخذ الصحافة طائفة والعروبة ملاذاً. يشكل عطا الله فعل التحبب بالسعودية، تاريخها ومآثرها، منذ الملك المؤسس عبد العزيز إلى الجيل الثالث في بناء الدولة وتطويرها الأمير محمد بن سلمان، والذي يسعى إلى إحداث ثورة سعودية تؤسس لحقبة جديدة عربياً وإقليمياً، فتنكسر عنده قاعدة أب علم الاجتماع السياسي ابن خلدون التي يتحدث فيها عن ثلاثة أطوار للدولة، ويعتبر أنه في الطور الثالث تجد الدولة طريقها إلى الانقباض أو الترهل. لكن ولي العهد السعودي يكسر القاعدة في مشاريع طموحة هدفها الانفتاح، الاتساع ضمن رؤية عربية وإقليمية ودولية، اختصرها بعبارة «أوروبا الجديدة» التي يريد لها أن تحطّ في الشرق الأوسط. شكل الملك عبد العزيز ظاهرة استثنائية في تاريخ العرب والجزيرة العربية وتأسيس الدولة السعودية. فهو الذي جمع وأسس لوحدة عربية قبل ولادة مفهوم الاتحادات وقبل تبلور مفهوم القومية العربية بمعناه المؤسساتي. وقد جمع الملك عبدالعزيز في مجلس حكمه مستشارين وأعضاء فريق عمل من الجنسيات العربية المختلفة، من العراق، مصر، سورية، تونس، لبنان، ليبيا وفلسطين. أحاط الملك نفسه بكتلة متنوعة، في إحاطة شاملة منه للواقع العربي، وتقرب منه الكثر من الغربيين والمستشرقين في الغرب كأمين الريحاني مثلاً والذي وصف «ابن سعود» بأنه الشخصية الأكثر أهمية. ولا يمكن إغفال أمير البيان شكيب أرسلان وقربه من الملك عبدالعزيز وهو يصفه بأنه الذي لا يفرط في حقوق العرب. ومما قاله أرسلان أيضاً في الملك عبدالعزيز، أنه الذي ضبط مملكته بأجمعها ومحا أثر الغارات والثارات بين القبائل. في إحياء ذكرى يوم تأسيس الدولة السعودية، استحضرت صور، مقارنات، وتشبيهات، بين الملك المؤسس وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كمطلق جديد للدولة السعودية وباعث مرحلة تأسيسية جديدة لها. وهو الذي يحيط نفسه بفريق عمل سعودي وغير سعودي ينكب على الدراسة في مجال التطوير والتحديث والتقدم. فيجمع في رؤيته ما بين إحياء مفهوم المواطنة السعودية والذي يسمى بالعربية العامية «السعودة» أي سعودة المجتمع وخلق ديناميكية حية بين مكوناته المختلفة بما فيها منح النساء دورهن الريادي، وجعل المجتمع حيوياً ومنتجاً، إلى جانب الأبعاد العربية والدولية في الرؤية، التي تقوم على التكامل لا على التنافر والتناحر، وهنا ينطبق قول شكيب أرسلان في الملك المؤسس، حول محو آثار الغارات والثارات. يخوض الأمير محمد بن سلمان مغامرة جديدة، عنوانها تحديث العالم العربي ومفهوم الدولة فيه، وهو الذي لا يزال غارقاً منذ أكثر من مائة عام في صراعات حول كيفية إنشاء الدولة. وقد عايشت المنطقة العربية ومحيطها ثلاث تجارب لبناء دولة حديثة، لكن التجارب الثلاث تعثرت، ففي القرن التاسع عشر حاول السلطان عبد الحميد الانتقال من دولة الخلافة إلى دولة الدستور ودولة المواطنة، لكنه لم ينجح في تحقيق مسعاه، ومعروفة النتيجة وبقية الرواية. محمد علي باشا الكبير أيضاً حاول في القرن التاسع عشر بناء دولة الحداثة في الشرق، لكن المسار لم يستكمل. ثم بعد الحرب العالمية الأولى كانت الأتاتوركية التي بنت الدولة التركية الحديثة. في هذا الوقت كان العالم العربي يتعثر في طريق التحديث بنتيجة الانقلابات العسكرية، والصراع الانقسامي بين العسكر من جهة والإسلاميين من جهة أخرى، ما قضى على فرص بناء الدولة الدستورية لأسباب منها ما هو ذاتي أي محلي ومنها ما هو خارجي. انفجر العالم العربي في ثورات الربيع، كانت التجربة منكسرة، بنتيجة التشظيات والصراعات ذات الأبعاد المختلفة، بين أهل النظام وأهل المعارضة، أهل الريف وأهل المدن، وأهل الطوائف والمذاهب الدينية والفكرية المختلفة، فتعثر مسار التغيير والتطوير من تحت، وكانت الحاجة بليغة في الذهاب إلى التغيير من فوق، وهي القيادة التي ارتكز عليها الأمير محمد بن سلمان. وفق منظور تاريخي لا بد من قراءة هذه التجربة، على أنها مهمة صعبة وشاقة، أولاً لمنح الهوية السعودية بعداً أركيولوجياً جغرافياً من خلال الإبحار في كنوز السعودية المخفية أو التي أحيطت بظلمة ومظلومية، فنفض عنها غبار الأزمان والتاريخ وأعاد إحياءها لإبراز مفاتن تاريخية من شأنها أن تعيد التأسيس لصناعة الإرث المبحر في التاريخ والباحث عن المستقبل. وثانياً، لمنح الهوية السعودية بعداً تكنولوجياً مستقبلياً إعمارياً. من خلال الاهتمام بالجيل السعودي الجديد الذي ليس لديه أي عقدة لا مع الغرب ولا مع الشرق، لا مع الماضي ولا مع المستقبل. ومن هنا يظهر أن المشروع السعودي الجموح والطموح بدأ يجد صورته الواضحة، المبنية على إرث تاريخي جغرافي وبعد ثقافي وسياسي عربي وما بعد عربي. بالارتكاز على هذا المشروع، لم تعد السعودية فقط مركزاً لتاريخ الدين الإسلامي، إنما تشهد إعادة صياغة للوطنية السعودية وللعروبة ولهوية الخليج العربي ككل. وما يميز هذه التجربة عن التجارب التاريخية التي ذكرناها أنها تستفيد من تجارب 150 عاماً وتسير بهدوء وحكمة وبسالة، نحو ما يجب تحديه وما يجب مواءمته وعصرنته وما يجب تجاوزه. فالهدوء من حكمة روح الهند. والبسالة من بسالة أهل نجد أو بسالة اسبرطة في التاريخ القديم. وهي فكرة تمتزج فيها المثالية الطموحة بالواقعية القادرة على التحقيق. والأهم أن صاحب الفكرة ومطلقها، يتجاوز مسألة انتظار التاج الملكي ليصنع سلطة، إنما هو يصنع السلطة برؤيوية ومشروع ومشروعية، يجتمع حولهم ثلاثة أجيال سعودية. فلم يستمد قوته من الملكية بل أكسبها قوة وحيوية، فهو الذي يتعاطى معه رؤساء الدول وزعماؤها كملك وإن بدون تتويج. فانطلق في مسار ترتيب البيت الداخلي كأهم الأولويات السعودية بعد اندلاع الربيع العربي وتمدد الإسلاميين، وانتقل بعدها إلى تقديم رؤية سعودية شاملة طموحة في مشروع بناء الدولة وتحديثها، وهو ما يفترض أن يتعزز بمشروع موازٍ للمستقبل، يرتكز على حماية النخب المدنية العربية، وهو الدور التاريخي الذي اضطلعت به السعودية في ظل الأنظمة العسكريتارية إبان الخمسينيات وما تلاها، وهو مشروع لا بد له أن يستكمل في إطار تحصين مفهوم العروبة وتعميم نموذج الدولة الحديثة، يتكامل فيها المشروع السياسي مع المشروع الإقتصادي، بما يشكل حاصنة ومناعة لمشروع تأخر عنه العرب قرن من الزمن.