ثمة مناهج ومدارس عديدة في تحديد معنى القوة، وكل مدرسة فلسفية وسياسية تعطي تفسيراً لمعنى القوة ينسجم والمباني الفلسفية التي تعتمد عليها هذه المدرسة أو تلك. والدول والحكومات السياسية تعددت أيضاً في مقاربة مفهوم القوة، تبعاً لتعدد المدارس والمناهج الفلسفية والسياسية التي ساهمت في صياغة مفهوم القوة. وبالتالي فإن الدول والحكومات تختلف في آليات تحقيق مفهوم القوة في واقعها ومجتمعها، تبعاً لاختلافها في معنى ومفهوم القوة. ولو تعمقنا في المدارس الفلسفية التي اقتربت من مفهوم القوة، وعملت على صياغة هذا المفهوم ومعناه في الواقع الخارجي، فإننا نجد أن هناك مدرستين أساسيتين ساهمتا في تحديد معنى القوة، ولكل مدرسة رؤيتها وفلسفتها لمفهوم ومعنى القوة والآليات المناسبة لتحقيق هذا المفهوم في واقع الدول والمجتمعات، ويمكن تكثيف معنى القوة من خلال الأفكار التالية: 1 ثمة رؤية فلسفية وسياسية واجتماعية، ترى أن القوة ومعيارها هو امتلاك عناصر القوة المادية، التي تردع الأطراف الأخرى، وتزرع الخوف والهلع لدى الآخرين وتبث الرعب في الأمم والمجتمعات الأخرى. وبالتالي فإن المجتمع الذي يمتلك عناصر العنف المادي العاري، ويمتلك مؤسسة عسكرية مجهزة بأحدث التجهيزات العسكرية ومدربة بأفضل التدريبات الحديثة، فإن هذا المجتمع أو الدولة تصبح دولة قوية ويشار لها بالبنان، وذلك لسبب بسيط وأساسي، لكونها تمتلك مؤسسة عسكرية قادرة على حسم المعارك لصالحها وقادرة على بث الرعب والخوف في نفوس الدول المنافسة. وبالتالي فإن الرؤية تختزل مفهوم ومعنى القوة في امتلاك ترسانة عسكرية متطورة وجيش عسكري مدرب وقادرة على بث الرعب والخوف في نفوس الآخرين أفراداً وجماعات. وبالتالي فإن هذه الرؤية وأصحابها والمؤمنين بها، لا ترى أي عنصر من عناصر القوة غير هذه العناصر، وأن الجهد الحقيقي الذي ينبغي أن تبذله الأمم والشعوب والدول هو في امتلاكها هذه العناصر والقبض عليها والتحكم فيها وتدريب أبناء الشعب عليها. 2 الرؤية الأخرى تنظر لمفهوم القوة بعين واسعة، وتحدد معايير القوة، انطلاقاً من طبيعة الوقائع والمعطيات التي تحدد وتوفر القوة بالمعنى الواقعي في الحياة العامة للمجتمع. وبالتالي فإن مفهوم القوة، يتعدى الجانب العسكري المحض وتصل وتضيف من عناصر القوة الثقافة والاقتصاد والمعرفة ومدى انسجام الشعب مع بعضه البعض ومدى انسجام المجتمع والدولة، ومدى تعبير الخيارات السياسية والثقافية والاقتصادية عن شوق المجتمع التاريخي. وبالتالي ثمة عناصر للقوة ذات طابع معنوي وثقافي، بحيث تشارك هذه العناصر في صنع وقائع جديدة للقوة.. بحيث لو لم تكن هناك معنويات مرتفعة لما تمكن المجتمع من تحقيق هذه العناصر المادية. وبالتالي فإن هذه الرؤية تمتلك نظرة واسعة لكل عناصر القوة، وتسعى نحو توظيف كل هذه العناصر لبناء مفهوم القوة لدى هذه الدولة أو ذاك المجتمع. وتقرر هذه الرؤية أن الدول التي تمكنت من القبض على مستقبلها، هي تلك الدولة التي استندت إلى المعنى الشامل والجوهري لمعنى القوة، وسعت عبر آلياتها الكثيرة لامتلاك كل عناصر القوة. أما الدول التي اختزلت معنى القوة، في المعنى المادي والعسكري المجرد، فهي لم تتمكن من القبض على مستقبلها، ولم تتمكن من مواجهة كل التحديات التي عاشتها وواجهتها. والمثال الواضح الذي يبلور بشكل صريح هذه الحقيقة، هي تجربة دولة أثينا وتجربة دولة إسبرطة؛ فدولة أثينا اعتنت بالعلم والفلسفة، واعتبرت أن معيار القوة الحقيقي، هو في إشاعة العلم المعرفة وتوسيع دائرة الاشتعال بالفلسفة علماً وإنتاجاً. أما دولة إسبرطة فقد اعتنت بالمعنى المادي والعسكري للقوة، ووجهت كل شبابها نحو بناء أجسامهم وتعلم فنون القتال والفروسية والتدرب على ركوب الخيل واستخدام السيوف والنبال. ولكن في المحصلة الأخيرة لم تصمد دولة إسبرطة أمام التحديات التي واجهتها، ولم تتمكن دولة إسبرطة التي اختزلت معنى القوة في امتلاك جيش عسكري ومقاتل ومدرب بشكل جيد من الصمود في وجه التحديات والمشاكل التي واجهت دولة إسبرطة. أما دولة أثينا بعلمائها وفلاسفتها، فقد تمكنت من الصمود أمام التحديات واستطاعت في المرحلة الأخيرة الانتصار على جميع المشاكل والتحديات. وبالتالي فإن الدولة والمجتمع القادر على مواجهة تحديات العصر والتغلب على هذه التحديات والمشاكل وترك بصمات ايجابية ونوعية في مسيرة البشرية، هي تلك الدول والمجتمعات، التي تعاملت مع مفهوم القوة؛ بوصفه من المفاهيم الحضارية التي لا يمكن اختزالها بجانب واحد من جوانب الحياة. ولقد تمكنت هذه الدول والمجتمعات من بناء قوتها بما يشمل كل عناصر التأثير في الحياة العامة. وبالتالي فإن مفهوم القوة الذي تحتاجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هو ذلك المفهوم الشامل والحضاري، والذي يوظف كل عناصر الحياة في مشروع بناء القوة لهذا المجتمع وتلك الدولة. وإن اختزال القوة بالمعنى العسكري، هو الذي أدخل المجتمعات العربية والإسلامية في دائرة الخطر؛ لأن المؤسسة العسكرية لا تتمكن لوحدها من الصمود أمام مخاطر عديدة، وإن عدم الالتفات إلى الاقتصاد والثقافة والحياة السياسية الوطنية التي تفتح المشاركة الواسعة لكل أطياف وأطراف المجتمع هو الذي ضيع الكثير من الفرص للعديد من الدول العربية والإسلامية. فالقوة التي نريدها هي التي لا تختزل في جانب واحد، وإن القوة الحقيقية اليوم هي تلك القوة التي تتكامل فيها عناصر القوة الخشنة مع عناصر القوة الناعمة، وإن المجتمع القادر على معالجة أزماته ومشاكله، هو ذلك المجتمع الذي يبني قوته الفعلية والأساسية، على أساس التكامل بين المادي والروحي، بين السياسي والعسكري، بين الاجتماعي والثقافي، بين الاقتصاد الاقتصادي والاقتصاد المعرفي. هكذا نفهم معنى القوة، وهكذا نريد لجميع دولنا العربية والإسلامية بناء وصناعة قوتها.