معركة العدوان على غزّة.. وملحمة التصدي الشجاع الذي تخوضه المقاومة الفلسطينية، تجاوزت ساحة القتال الجغرافية، لتطال المعمورة بأسرها. المعركة الإعلامية، المصاحبة للقتال، تحمل في طياتها إرثاً تاريخياً لصراع الشرق والغرب، بكل أبعاده الدينية والإنسانية والثقافية والحضارية والعرقية. المعركة الإعلامية، التي يشمل مسرح عملياتها العالم بأسره، لا تقل شراسةً عن القتال الضروس، الدائر في مسرح العمليات العسكرية. إسرائيل، في بداية الحرب، حاولت، وما زالت تحاول، أن تظهر كمن يدافع عن نفسه، ضد هجوم مباغت قامت به المقاومة الفلسطينية، وصفته إرهاباً! هب الغربُ بإمكاناته السياسية والاقتصادية والعسكرية والدعائية، لمساعدة إسرائيل، متعهداً بعدم السماح لتكرار ما حدث. تحركُ إسرائيل بمساعدة الغرب، لم يكن في حقيقة الأمر، نجدة لإسرائيل، بقدر ما كان ثأراً لإذلال إسرائيل (دولة الجيش الذي لا يُقهر). إستراتيجياً: كان لزاماً تحقيق حلم إسرائيل التخلص نهائياً من غزّة، بمحوها من الوجود، وإلقائها بسكانها (2.5 مليون إنسان) في البحر! كان المطلوب حينها تطوير استراتيجية إعلامية لتبرير حرب إبادة جماعية في غزّة، بحجة الدفاع عن النفس، حتى لو تطلب الأمر اشتراك الغرب نفسه في القتال. في البداية، كانت الثقة كاملة، في إمكان تحقيق انتصار إسرائيلي سريع.. والتخلص من المسألة الفلسطينية، مرةً واحدةً، وللأبد.. واستعادة الهيبة الإقليمية لإسرائيل، لتواصل وظيفتها الإستراتيجية، خدمةً لمصالحها الإمبريالية، في المنطقة. خطأ الحملة الإعلامية، التي دشّنتها إسرائيل بمساعدة آلة الدعاية الغربية الجبارة، أنها ساومت على المهنية الصحافية.. والأخطر: مساومتها على قيم الليبرالية، التي تؤسّس لشرعية حكومات مجتمعات الغرب. اعتمدت هذه الحملة الإعلامية (الكذب)، منهجاً دعائياً ترويجياً لارتكاب حملة إبادة جماعية في غزّة. زعموا: أن رجال المقاومة الفلسطينية قتلوا كبار السن.. وقطعوا رؤوس الأطفال، واغتصبوا النساء! الرئيس الأمريكي، نفسه، ردد تلك المزاعم، وإن تراجع سريعاً عنها، إلا أن الرسالة الإعلامية وصلت، فلم يُفدْ إنكار حدوثها، بل أمعنت ترديدها آلة الغرب الدعائية الجبارة، تساندها حملة دبلوماسية أكثر شراسةً وغياً! الكذب لم يكن وحده عماد إستراتيجية إسرائيل والغرب الإعلامية، في إدارة الأزمة.. بل اعتمدت أيضاً على نهج حجب الحقيقة، في أكبر خرق دستوري لحقوق المواطن (الغربي). بحجة الحرص على «معايير» المحتوى، فرضت حكوماتُ الغرب تعتيماً إعلامياً، مدعوماً بقوانين صارمة شديدة القساوة، لما تحدثه آلة الحرب الإسرائيلية من تجاوزات، تتدنى لمستوى جرائم الحرب وحضيض الإبادة الجماعية. حتى مجرد انتقاد إدارة إسرائيل للحرب أُُعتبر معاداة للسامية! رغم صعوبة الموقف العسكري للمقاومة في غزة، مقارنةً بإمكانات إسرائيل القتالية الجبارة، إلا أن المقاومة تمكنت من الصمود، وحرمت إسرائيل من تحقيق حلم القضاء عليها. النجاح العسكري الذي أحرزته المقاومة، في غزّة، واكبته حملة إعلامية ناجحة، تستند على الدقة والصدق، مع توخي التحفظ الشديد، في نقل أخبار المعارك، برسائل مرئية قصيرة معبرة، لكن مؤثرة. لقد تجلى نجاح حملة المقاومة الإعلامية المضادة في ما شهد به الأسرى الإسرائيليون المدنيون، بحسن المعاملة، التي لاقوها من آسريهم. بل إن مشاهد توديع الأسرى لآسريهم، كانت تحمل معاني الامتنان والشكر، بل والحب، موثقين شهاداتهم برسائل تركوها عند مغادرتهم. لقد وصل امتنان الأسرى بمعاملةً آسريهم، شكرهم على رعايتهم الصحية.. ولطفهم تجاه أطفالهم. ابنة إحدى الأسيرات شهدت أن والدتها المسنّة تلقت علاجاً في الأسر، فشل أطباء إسرائيليون، وصف دواء شافٍ مثله. الفلسطينيون، لو لم ينتصروا إلا في معركة كسب الرأي العام العالمي، الذي عرف لأول مرة في التاريخ أن للفلسطينيين قضية تحرر وطني.. وأن إسرائيل دولة عنصرية عدوةٌ للسلام.. وأنها تعتقل الأطفال والنساء، وتًُسيء للأسرى الفلسطينيين لديها، لكان هذا انتصاراً سياسياً وحضارياً وإنسانياً مبيناً، يُضاف للإنجاز العسكري، الذي أسقطوا به أسطورة الجيش الذي لا يقهر. في حرب طوفان الأقصى انتصر الفلسطينيون مرتين. عسكرياً: أسقطوا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، بإفشال إستراتيجيته القضاء على المقاومة، وإعادة احتلال غزّة. إعلامياً: انتصر الفلسطينيون وكانت غنيمتهم: نيل قلوب وعقول الناس، حتى في مجتمعات الغرب.. وأصبح العالمُ بأسره يطالبُ بالحرية للفلسطينيين.. ويهتفُ: عاشت فلسطينُ حرة. ملحمةُ طوفان الأقصى أظهرت كم هم العربُ والمسلمون متفوقون ثقافياً وحضارياً وإنسانياً على الغرب «الليبرالي». لقد خاض الفلسطينيون الحرب بفروسية، غايةً في النبل.. وبأخلاقيات إنسانية رفيعة تجلت في تعاملهم الحضاري مع الأسرى.. وصدقية إستراتيجيتهم الإعلامية، وتفاديهم التعرض لغير المقاتلين، من جانب العدو.