أبهج الصحفي المُخضرم الزميل علي مكي، النخبة الثقافية والإعلامية، بطرحه حواراته التي مضى عليها أكثر من ربع قرن في كتابه (علمانيون وإسلاميون جدالات في الثقافة العربية) ليُعيد (أبو مشعل) حراك الثمانينات والتسعينات إلى صدارة المشهد. وربما أتاح لي هذا المولود الأحدث سوانح للتوقف أمام شخصياته، فالحوار مع محمود درويش تضمّن أسئلة مذهلة، مقارنة بالمرحلة العمرية، وأحيي الشجاعة التي ملكتها في خطواتك إليه. فيما كان حوار أدونيس: ملغماً وخطيراً، واستدارجك متقن، وأعجبني تعريفه للشذرة «تكثيف استبصاري»، وفكرته في «قرّاء» للشاعر، و«جمهور» لرجل السياسة أو رجل الدين، رغم غموضه لكنه لافت في الإجابات، كان عنيفاً في وصف الثقافة العربية وحاضرها ومستقبلها. وكان كمال أبو ديب: بمصطلحنا «عربيداً» فكرياً، لغة الأنا الطاغية لديه مثيرة، تعاملت معه بحرفية عالية واستدرجته دون أن يدقق رغم حذره ودهائه وطغيان رَوحه. ليتجلى الإصرار في حوار محمد عابد الجابري: رغم تمنعه هو إصرار لصحفي ماهر وواثق جداً من إمكاناته رغم حداثة تجربتك كذلك 1997، حواره من الحوارات التي يجب أن تُقرأ مرتين، فيها عمق وصعوبة وتخصص دقيق. واتسم حوار هشام شرابي بهدوء، رغم حجم الألم الدفين داخله، سؤالك المرافق لكتابه «صور الماضي» سؤال بسيط وفظيع في آن واحد، كان هشام منهزماً من الداخل، يحاول ويحاول لكنه مقتنع بخذلان لم يتوقعه أو لا يملك إزاءه شيئاً إلا مزيداً من التفكير وكثيراً من الكتابة والتفرغ النفسي -على الأقل- للقضية. وأحببتُ حوار إميل حبيبي: كثيراً إذ لغته سهلة وطرحه أخّاذ، وكنتَ حاداً وبالذات حين فجعته فجأة بميوعة الموقف، أراه مباشراً ولديه رأي نتفق أو نختلف معه لكنه يظل رأياً، وما أكثر قراراتنا التي نتخذها ثم ننقضها. ولعل اقتناصك لأسئلة بلند الحيدري: حوار لوحده، كل سؤال بحر بمفرده، هدوء بلند في بعض الإجابات مثير وقسوته في البعض الآخر مثيرة، وما قاله جهاد الخازن في نصائح مهمة عنف لفظي فاخر وجاءت إجابة بلند غاية في الذكاء والدبلوماسية. وأنا أقرأ حوار محمد جابر الأنصاري، شعرت أني أمام ضيف ثقيل، هل ذاك عائد للتعصب الخليجي وشعوري أني أقرأ حواراً لمن يشبهني باللهجة والملبس، كنت هادئاً على غير العادة في الأسئلة فظهر الحوار رسمياً الى حد كبير، لكن ل(الضيف) كاريزما مختلفة تقرأها من حروفه وإجاباته. واتسم حوار صالح علماني: بالرشاقة والمتعة، فهذا الحوار كما هو صالح بالضبط في أعماله المترجمة، في الحوار حنين وثراء ولغة رشيقة غير متكلفة، وطرح متواضع، وهذا دليل أن المترجم لن يتكرر. ولم تخفِ حميمية الحوار مع صبحي حديدي: أو لعله مبطن بالحب والحميمية، طرحه عن الرواية والضوء الذي سلطه عليها يستحق التمعن، وما ذكره عن أن مسودة النص عورة إلى أن يتم الانتهاء منها، قول بالغ الدقة والحساسية. فيما يبدو حوارك مع محمد علي شمس الدين: حواراً مقتضباً، وجرى بشكل سريع «كل ما سوف يأتي مضى ويدي لا تراني»، الساحة الشعرية السجالية التي تحدث عنها وأن الشعر في هذه المرحلة سيد ذاته أبرز ما التقطته في خمس صفحات، شاعرٌ هادئ ويملك قناعات كانت كافية ليعيش مرحلته دون ضجيج. ويبقى سمير عطا الله: لغة فاتنة عالية وفتوة وإن شارف على التسعين من العمر وناهز 40 عاماً من الكتابة وحراسة المقالة اليومية، وإجاباته سلسة كما هي أسئلتك، ولعل أبلغ وصفة لإنقاذ العالم العربي قرأتها في الحوار: العلم، وليس ثمة وصفة إطلاقاً. وللشاعر شوقي بزيع: نظرة تفاؤلية جداً في المثقف والثقافة العربية، وعشق صريح ل(بيروت) محمل بثقة في أنها قادرة على أن تعود لسابق العهد، والجمال والنبض والوهج. وتتجلى في حوار إبراهيم عبدالمجيد: انحياز للهدوء والبساطة والخلفية عن هذا الروائي تعزز ذلك، وحتى نمط الأسئلة يدفع في هذا الاتجاه، ولعله إحساس عميق جميل وراقٍ ذلك الذي عبر له حين قال: إن أهم ما يجب أن يفعله هو أن ينعم بالوقت القليل الباقي في الحياة. وارتسم العنف الفكري على محيا حوارك مع السيد ولد أباه، حوار مشبع بالفلسفة التي يؤمن بها الضيف ويراها وثيقة الارتباط بواقع البشر اليومي وهمومهم وانشغالاتهم الاجتماعية، وأعجبت جداً بتحليله لتجربة الإخوان ودون أن أعود لتاريخ الحوار، لكني عرفت أنه حديث لأن هذا التحليل لا يأتي دون معايشة للتجربة ومعاينة لها وسبر أغوارها وقنص للسلبيات التي تضخمت مع تضخم سنين التجربة الفاشلة. لتظل تفاصيل الناقد عبدالله الغذامي: بعمرها الطويل، تفاصيل جديدة، حين مررت على الاسم والعنوان توقعت أن أخوض حواراً شرساً ونزالاً فكرياً لكن على خلاف التوقع كان الحوار مسالماً، حميمياً كحميمية الأرق مع الغذّامي، وأعجبت جداً بحكمة أن يختار المرء خصومه مثلما يختار أصدقاءه. ولا غرابة أن يؤجج حوار مشعل السديري: العاطفة والحنين، بدأت أقرأ الحوار ولا أعلم لماذا انثالت الذكريات؟ الفن لدى الكاتب يتوقف عند الحرف والجملة، سخريته مستمرة وربما سخر من نفسه، كل إجاباته لاذعة أو ذاهبة ل(حالة) من اللامبالاة وهي مجرد حالة عامة أدمنها وإلا فأنا مؤمن أشد الايمان أنه دقيق منظم عنيد وجاد حد الملل، السخرية ليست إلا غطاء وتنفس. ومن المهارة محاورة الشاعر عبدالرحمن الأبنودي: المصري الذي تلذذ بالعامية ونافس بها حد الشهرة، وهذا أمر ليس عادياً على مستوى القصيدة ونحن الذين لا نعرفها من مصر إلا طرية فصيحة، فجاء الأبنودي بها على طبق من الشعبية والبساطة واللهجة المحكية وربما الفقر. ولم تنحز للحداثة بل شاكست، مناصري الأدب الإسلامي ومنهم الدكتور حسن الهويمل: وأصدقك، طربت أيما طرب لهذا الحوار ليس لأني من هواة المشاكسة ولا المعارك لكن الأسئلة عنيفة والإجابات على ذاك القدر من العنف والانفعال كذلك. ولك فضل كشف جوانب من شخصية الشاعر السوري سليمان العيسى: هذا الشاعر بسيط فعلاً، ونفسه كبيرة، تعلقه بالشعر ودفاعه عنه وتصديه لكل من يحاول إزاحته من العمادة الثقافية هو تصدٍ مقدر وشجاع، وعناصر الفن الخالد التي حددها «موهبة - قراءة مستمرة ومعاناة او تجربة». ويبقى الحوار مع قامة بحجم تركي الحمد مظنة الدهشة: حضرتْ معه الأسئلة بمستوى من الإثارة وحضرتَ معه بشيء من التنوع والشمولية، وكأنك تعرف أن تركي يباشر في الإجابة ويضرب برشاقة، وكم تلذذت بإجابته حيال ما يعوز المؤسسة التربوية محلياً وعربياً حين قال: الانتقال من عالم كان إلى عالم صار ومن حيز كم إلى حيز كيف ومن طغيان الفكرة إلى ديموقراطية المعلومة. وذهبت بنا لعالم الاجتماع الدكتور سعد الدين إبراهيم: الذي ذكرني بأنه إذا كثرت الأوجاع والهموم تصلب الإنسان، وبات حاد الطباع، عصياً على التنازل أو قبول منطقة وسطى للتحاور والنقاش، وبعض منعطفات الحياة ذات أثر بالغ وتأثير قوي، تجعل المحبين خائفين والكارهين مترقبين، والحقائق دوماً هي رهن الأيام، والأيام حبلى، سعادة سعد الدين إبراهيم منقوصة وإن تردد اسمه في كل مكان وعرفه الصغير والكبير. ويظل أستاذ الحداثة الفرنكوفوني عابد خازندار: هادئ الطبع، ذا ذاكرة حية، يقدم رأيه بشكل تلقائي ومدروس، تجربته ثرية ويكفي أن انطلاقته جاءت مع أسماء يشار لها بالبنان ولا بد لها من بصمة مع مرور الزمن، الهدوء كاد أن يخرج عن المسار تحت حدية بعض الأسئلة، لكن أدار المضمار الأخير كما يجب ودون أن يعبث بالذهن حَرج أنه لم يجب على سؤال انسل بمهارة وقوبل بالصمت. وبحكم شاعرية علي بن تميم: جاءت لغة الحوار رشيقة رغم حساسية الطرح والتناول ومثل هذه الملفات تفتح عشرات الأسئلة وتقود للتصنيفات والتهم وترمي حجاراً هائلة في المياه الراكدة. لتختم الكتاب الدسم بالدكتورة ابتهال الخطيب: ومن عنوان صفحة عكاظ «جدل» تدلف إلى جدل وإثارة ومصادمة مفتوحة على مصراعيها، لا شك أن ذاك مطلب ومفتاح للتفاعل مع أي رأي لا نتفق معه أو رأي مضاد، حماسها لأفكارها محل شد وجذب ولو التحف هذا الحماس بالسوداوية.