يوم الجمعة الماضي حلّت الذكرى الخمسون لحرب السادس من أكتوبر 1973 (العاشر من رمضان 1393). حربٌ كانت مفاجأة للعالم بأسره، وليس فقط للعرب وللعدو. في الساعة الثانية ظُهْرَاً اجتاحت القوات المصرية خط بارليف المنيع والقوات السورية هضبة الجولان. بغياب شمس ذلك اليوم، سيطرت القوات المصرية على الضفة الشرقية لقناة السويس بعد اقتحامها النقاط الحصينة في خط بارليف.. وكانت القوات السورية قد استعادت هضبة الجولان وقد بدت لها أنوار المدن الإسرائيلية جنوباً، من بينها تل أبيب، تتلألأ أمامها. حربٌ خاطفةٌ ناجحة، بكل مقاييس القتال الحديثة. لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أضحت مبادرة القتال وقرار الحرب بيد العرب. ولأول مرة تشعر إسرائيل بخطرٍ استراتيجي واضح وناجز على وجودها. انتصارٌ عسكريٌ باهرٌ، حققه العرب بعد هزائم متتالية في حروب (1948، 1956، 1967). لكن الحروبُ تُقَيّمُ بنهاياتها، والنتائج المترتبة عليها.. وليس ببداياتها. في النهاية تتضح ملامحُ النصر أو نُذُرُ الهزيمة، باقتراب أطرافها من الهدف الاستراتيجي لشنها، من عدمه. حربُ أكتوبر عربياً، يمكن وصفها بأنها حربٌ لم يكتمل انتصارهم فيها، حيث في نهايتها: خذلت السياسة إنجاز الجيوش. في المقابل: لم تُهزم إسرائيل فيها، ولم تنتصر حينها أيضاً، وإن كسبت، بنهاية العمليات العسكرية، مواطئ قدم في أراضٍ عربية جديدة، مما مكّنها إحداث اختراق استراتيجي، بعيد المدى، قَرّبَها أكثر من تكريس وجودها في المنطقة. في نهاية الحرب اخترقت القوات الإسرائيلية جبهة قناة السويس غرباً، من ثغرة الدفرسوار.. وحاصرت مدن غرب القناة، وكادت أن تدخل مدينة السويس، لولا المقاومة الباسلة لأهلها.. ووصول طلائع قوات الأممالمتحدة لمراقبة الالتزام بوقف النار بموجب قراري مجلس الأمن 338، 339 (22، 25 أكتوبر). في الوقت الذي حاصر الجيش الإسرائيلي غرب القناة قوات الجيش الثالث المصري شرق القناة، وتوقف عند نقطة الكيلو 101 (طريق القاهرةالسويس)، إنفاذاً لقراري وقف إطلاق النار. على الجبهة السورية، نجح الهجوم المضاد الإسرائيلي في استعادة هضبة الجولان، مع احتلال جيب صغير شمال غرب الجولان. بينما أدت اتفاقية فك الاشتباك (13/5/1974)، لإحداث تعديل طفيف في خط حدود 1967، باحتفاظ سورية بمدينتي القنيطرة والرفيد، مع إبقائهما والمنطقة العازلة الجديدة، مناطق منزوعة السلاح. أبرز إنجازات إسرائيل العسكرية والسياسية بوجود جيشها غرب القناة: أن مباحثات الكيلو 101 العسكرية لفك الاشتباك، حدثت غرب القناة، وليس في الجانب الشرقي منها. كما أن فك الاشتباك الأول (يناير 1974) نص على تقليص القوات المصرية شرق القناة، إلى 7000 آلاف جندي و30 دبابة، مقابل انسحاب الجيش الإسرائيل من غرب القناة. قبل ذلك كانت مصر، في ما سمّي باتفاقية النقاط الست برعاية وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر (11 نوفمبر 1973)، قد وافقت على تبادل الأسرى، مع مشاركة قوات إسرائيلية مراقبي الأممالمتحدة لاتفاق وقف إطلاق النار، في نقطة عند مدخل مدينة السويس لمنع أية إمدادات عسكرية للمدينة وللقوات المصرية شرق القناة، قبل انسحاب إسرائيل لخط وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر. عربياً: لَعَلّ من أهم إنجازات تلك الحرب ظهور حالة نادرة من التضامن العربي، تجلّت بصورة جلية وفاعلة في استخدام سلاح النفط. بقيادة المملكة العربية السعودية، تم قطع النفط عن الدول الغربية الداعمة لإسرائيل، بالذات الولاياتالمتحدة وهولندا، مع تخفيض متدرج لإنتاج النفط. لكن شأن المعركة العسكرية، لم تستمر معركة النفط طويلاً، حيث وضعت أوزارها هي الأخرى، في قمة الجزائر 26 نوفمبر 1973.. ولفظت أنفاسها الأخيرة، بقرار وزراء النفط العرب في فيينا 18/3/1974، بوقف قرار حظر النفط. باختصار: حرب أكتوبر، حينها، لم تستعد الأراضي العربية، حتى لمصر وسورية، بل عَقَدَت استرجاعها كاملة السيادة لليوم.. دعك من دورٍ لها في إيجاد حل عادل لقضية الشعب الفلسطيني. استراتيجياً: كان ضحية حرب أكتوبر في الأساس استبعاد خيار الحرب عربياً! حيث أعلن الرئيس السادات حينها أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب! بينما لا تزال إسرائيل متشبثة بخيار الحرب عدواناً، إلى اليوم وغدٍ. الضحية الأخرى، ولا تقل أهميةً استراتيجية، هي: تلك الوعود «اللاءات» الثلاث (لا صلح.. لا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل)، التي قطعها العرب في قمة الخرطوم 29 أغسطس – 2 سبتمبر 1967، ما لم يكتمل هدف إزالة عدوان تلك الحرب، وكان العربُ خرجوا لتوهم من هزيمة عسكرية مريرة. هذه اللاءات اعترف بها النظام الدولي وكان في انتظارها، ليصدر قرار مجلس الأمن الشهير 242 (22 نوفمبر 1967). باستعراض أوضاع المنطقة اليوم، بعد خمسين سنة من حرب أكتوبر، ترى مَنْ في حقيقة الأمر انتصر، أو اقترب فعلياً من زعمه: الانتصار في تلك الحرب.