كنت محظوظاً في حياة والدي عن بقية إخوتي، إذ كنت الأكثر التصاقاً به لنصف قرن من الزمان، فاستقيت من معاصرته كل القيم السامية.. رافقته في رحلات عمله حين كان يعمل وزيراً مفوضاً بوزارة الخارجية، فاكتسبت خبرات حياتية طويلة.. ولذلك؛ فإن ذكريات مرحلة الطفولة ما زالت منقوشة في ذاكرتي ويحتضنها قلبي، وسأعيش بقية عمري على ذكراها.. إنه أبي «محمود عمر شاولي». من ذلك الأب القوي الأمين حصدت الصبر والحمد.. ومن ذلك الأب الأخ الحنون أخذت الطيبة والوفاء.. تلك الصفات وغيرها جعلتني وإخوتي نشعر بالحياة، لنكون دائماً تحت قدميه في مقابل كلمة رضا ودعوة صادقة تفتح لنا أبواب السماء. بالرغم من الشبه الكبير بيننا في الملامح؛ أشاركه أيضاً الشبه في مشيته وتصرفاته وإحساسه ومشاعره وحبه، وهذا الذي جعلني صورة طبق الأصل لوالدي، وهو ما يجعلني أشعر بالمسؤولية لتحمل المهام، والفخر بأننا أصبحنا روحاً وجسداً واحداً. أربعة أشهر مرت على رحيل والدي الغالي، ولم أشعر بالفقد مثل الآخرين؛ لأن روحي احتضنت روحه فلم أشعر بالوحدة أو الغربة وكم أنا محظوظ بذلك.. أشعر على الدوام بوجوده معي.. أتخيل صورته وملامحه في كل اللحظات.. طيف صدى صوته يرن في مسمعي.. حين أشتاق إليه يأتيني في منامي ليخبرني أنه في مكان جميل في حياة البرزخ فيطمئن قلبي ويرتاح. لم أشعر يوماً أنه غائب عن مكتبته، التي كان يقضي فيها جزءاً طويلاً من يومه يقرأ ويكتب ويؤلف، فترك إرثاً من الكتب والمقالات سطرها عن حياة في السلك الدبلوماسي. مهما كتبت عن والدي فسأظل مقصراً، فمآثره كثيرة لا يمكن سردها في مقالة واحدة، فهناك الكثير والمثير في حياة هذا الرجل العصامي، الذي بدأها من عائلة فقيرة وبسيطة من مكةالمكرمة وصولاً إلى أعلى المناصب في خدمة الوطن الغالي وزيراً مفوضاً بوزارة الخارجية. رحلة كفاح ونضال طويلة كالنحت على الصخر، بدأت من الصفر من غير وجود أب، الذي فقده طفلاً لا يتعدى السنوات الخمس.. رحلة كفاح وسيرة عطرة وحياة طويلة شاقة مليئة بالأفراح والأحزان والنجاحات والفشل والدموع والمرض.. رحلة كفاح ترك خلفه أجمل الذكريات عنها، وأروع المآثر التي ستظل عالقة في وجداننا بقية عمرنا.. رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.