في وسط المدينة. كنت مستنداً على جذع الشجرة الضخمة وقد اخترقت جذورها الجافة الرصيف المتآكل الذي أقف عليه قلقاً، منتظراً عربة الأوبر حين سمعت صوتاً متهافتاً خفيضاً قربي: «عمو..عمو، جيب لي شبشب»..! التفتّ يميناً فوجدته رثّاً أشعث الشعر، كأنه خارج من مقبرة. أو منجم فحم..! حافياً، بدت لي أصابع قدميه مثل غصون شجرة محترقة، ويرتدي كنزة ممزقة لا تقيه من صقيع المساءات الماطرة ولا ظهيرة أغسطس. أشار إلى دكان قريب يبيع بعض الأحذية الرخيصة وفي عينيه رجاء لم أستطع مقاومته. قلت لسائق سيارة الأوبر التي اقتربت مني: «انتظرني دقيقة لو سمحت» سمعته يهتف: «الانتظار محسوب يا أستاذ» أومأت إليه بالموافقة. وذهبت إلى كشك الأحذية القريب وطلبت من الشاب المرتجف من البرد والقيظ: «ماذا تريد، شبشب أم كوتشي؟» وسألت البائع: «ما سعر الكوتشي يا معلم؟ وما سعر الشبشب؟» أشار الشاب إلى شبشب بلاستيكي أخضر بمقاس 45 وقال: «عمو عايز ده.. كلها عشرة جنيه»! حين طلب مني البائع سبعين جنيهاً، نقدت الشاب بالثلاثين الباقية وقلت له: «يلاّ خد الباقي وروح تعشى» قبّل الأوراق النقدية التي صارت بين أصابعه ثلاثاً، وجرى متقافزاً، راقصاً إلى عربة الكشري التي كانت في الجهة الأخرى من الرصيف. أما أنا فقد أخذت مكاني في المقعد الخلفي، وطلبت من كابتن الأوبر التحرك. نعست قليلاً والحزن غطائي، والعربة تنهب الطرقات بي، وتعبر الأنفاق العميقة، والجسور العالية والكباري، ماضية كسهمٍ من شمال المدينة حتى جنوبها، وكم بدت لي المدينة كامرأة جميلة هرمة، وأنا أنظر مرتعباً عبر نافذة العربة إلى حجرات المقابر الموحشة المتناثرة من يميني ويساري. وصحوت من إغفاءتي القصيرة حين سمعت الكابتن يهتف: «يا باشا الحمد لله على السلامة.. وصلنا..!!»