كان الواقع يشير بسبّابته المرتعشة إلى نهاية مؤلمة.. كل المعطيات كانت تقف بصمت خارج الحلبة تنتظر فقط النتيجة المتوقعة.. محمد علي كلاي لا يمكن لِلَكماتك الثورية أن تهزم الواقع وتطيح بقوانين المنطق في زائير.. جورج فورمان، ملاكم يافع لم يذق طعم الهزيمة بعد، بطل العالم للوزن الثقيل، وفي سدرة أدائه الرياضي.. خاض ما يقرب من أربعين نزالاً غالبها أنهاها بالضربات القاضية وفي الجولات الثلاث الأولى، ومنتصرًا على خصوم أشدّاء تغلبوا عليك ك كين نورتون و جو فرايزر. إذًا لماذا يا محمد نزال «زئير الأدغال» ولمَ المخاطرة بسجلٍ متخم بالإنجازات والألقاب واللكمات الحاسمة.. ستهزم يا محمد لا محالة.. استيقظ.. إنه جورج فورمان. هذا الجريان المتدفق من الخوف والقلق كان حديث حال اللحظة ورأي جموع الخبراء والمحللين والرياضيين وقتها، وحتى فريق محمد علي ذاته كان يقف متدثرًا وراء ستار الهلع والانهزام. كان محمد يقف وحده معزولًا عن واقعهم ومعطياتهم ومنطقهم، متمسكًا بالخبرة والدهاء والإيمان، ومتصلًا بثقة متعتّقة عبر الزمان. صرخ فيهم جميعًا بعد أن أطاح بالمستحيل وأنهى فورمان بالقاضية.. إذا خفتم فتظاهروا بالقوة.. وتبسموا.. فلن نستطيع أن نجابه الخوف والمستحيل إلا بالأمل. كلاي لم يكن في الحقيقة مجرد طفرة تاريخية فحسب، بل هو نتيجة لسلسلة مترابطة من الحيثيات والشخصيات العظيمة المجتمعة التي صنعت بعضها وخلّدت هذا النموذج الرياضي والإنساني المتفرد. جو مارتن، الشرطي والمدرب الأول الذي انتزع محمد من مسالك البلطجة الشوارعية، ووظّف غضبه في الحلبة الصحيحة. أنجيلو دندي، المحارب والمدرب المخضرم الذي ابتكر استراتيجية النصر لكلاي "الارتكاز على الحبل" في نزاله التاريخي ضد فورمان. وآخرون هم من قرعوا أجراس البدايات والتمكين في مسيرة محمد الخالدة، وكانوا ملهميه وعرّابيه نحو التميز والسيادة. محمد ذاته كان نقطة إلهام مشعة وتحوّل صارخ في أجيال رياضية لاحقة. نزالاته ضد الظلم والعنصرية المقيتة، رسائله المشبّعة بالأمل والإنسانية، وكلماته التي كانت مغلّفة بالبذاءة والاستفزاز أحيانًا، معاول حق صلبة هدّمت أصنام الخوف والجهل ومهّدت لصناعة تاريخ من العظماء والحالمين يهتفون بعده «نحن الأعظم على مر التاريخ». أعظم ما يُخلّده العظماء هم عظماءٌ آخرون! ما يُخلِّد العظماء ليست إنجازاتهم وألقابهم وكارزميتهم الطاغية فحسب، ولا فولتات الأضواء الساطعة عليهم وحملات التسويق المبهرجة بأسمائهم. ما يخلِّدهم تابعون أوفياء، يتمسكون بأمانة الرسالة وينطلقون في دروبهم مُكْملين السباق حتى النهاية وما بعدها. لم يكن ليتذكر التاريخ محمد علي كلاي لو لم يكن يقاتل خارج حدود الحلبة، ويبذر الأمل في مجتمعات مضطهدة، وينحت الحلم تمثالًا مُمْكنًا للأجيال القادمة. لم نكن لنتذكر بيليه، ومارادونا، ومايكل جوردن، وبالتأكيد محمد علي لو لم يولد رونالدو، وميسي، ومايك تايسون، وليبرون جيمس، وروي جونز جونيور، وكثيرون من العباقرة الذين تأثروا بوهج إنسانيتهم وقيمتهم الرياضية الفذة. كانت مهمتهم الحقيقية إلهام هؤلاء القادةِ الجدد، وتوليد أجيال من الرواد والمجددين يحْملونهم أحياءً في ذكراهم وإنجازاتهم. كثيرون هم من صعدوا الحلبات وانتصروا لذواتهم، وقليلون هم من تربعوا على عروش الذاكرة وتقلدوا أوسمة القدوات وخلّفوا عظماء مثلهم.