إذا كان القرن الخامس عشر -كما يقول تودوروف في سياق غزو أمريكا- ليس قرن اكتشاف الآخر وإنما قرن القضاء على الآخر، فيمكن القول إن القرن التاسع عشر -(من جهة المشرق)، وبما أتيح لنا من قراءات عبر (استشراق سعيد) وما كتبه فرنيل وغيره- هو، غالباً، قرن الأحكام القيمية على الآخر، قرنُ أشرسِ محاولةٍ لاستلاب الآخر والتعامل معه باعتباره غنيمةً يحق للغرب أن يفعل بها ما يشاء، وهو أيضاً (على المستوى المادي)، كما هو معروف، قرنُ سلبِ كنوز الآخر (الشرق الأدنى) تحت ذريعة (تعبر هي وحدها عن قتامة المشهد الأخلاقي) وهي استكمالُ -كما هو معروف- مجموعةِ التحف الفنية للقصور الملكية في أوروبا! في اللحظة نفسها التي أستعرض سلوكيات فرنيل الخطابية الإقصائية على مستوى علاقته المأزومة مع معتقدات الآخر، نستيقظ (في نهاية عام 2020) على جدل مشتعل في أماكن متفرقة من العالم حول خطاب (الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة) جوزيب بوريل الذي قال من على منبر الاتحاد الأوربي وبمناسبة افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية: «إن أوروبا عبارة عن حديقة، لقد شيّدنا حديقة، شكلت أفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والتماسك الاجتماعي استطاعت البشرية أن تشيِّده، لكن... معظم بقية العالم عبارة عن أدغال». لا أعلم حقّاً، مع التباعد الزمني بين الشخصيتين: هل يختلف بوريل كثيراً عن فرنيل من زاوية التمركز الثقافي والأحكام القيمية؟ خطاب بوريل يمكن اعتباره «نداء بوريل لترويض العالم»، ترويض العالم وفق رؤيته هو للعالم. الخطاب الذي تلقاه العالم خطاب يحيل على مجتمع أوروبي طهوري كامل قادر على أن يتحرك في كل مكان لترويض العالم ثقافيّاً وحضاريّاً. استعمال مصطلح (معظم بقية العالم) واحد من أقسى وأخطر مصطلحات التمركز الثقافي. ثنائية الحديقة الغنَّاء والأدغال تحيل على ثنائية الجمال والتوحش. بوريل ليس شخصية عادية، والمنصة التي تحدث منها ليست هامشية، ولذلك لم يكن التلقي عاديّاً ولا هامشيّاً. ثمة تساؤلات عميقة حول حجم التمأزق الأخلاقي الذي يعبر عنه خطاب بوريل. خطاب بوريل هو حتماً امتداد لخطابات بعض المستشرقين الذين أخذوا على عاتقهم تمهيد الطريق نحو استباحة (الآخر) اقتصاديّاً وثقافيّاً وسياسيّاً. النداء للذهاب نحو (الأدغال) امتداد لخطابه هو (بوريل) عندما كان وزيراً لخارجية إسبانيا، حينما ذكر أن الذين قتلهم كولومبوس وكورتيس من السكان الأصليين إبان غزو أمريكا لا يتجاوز عددهم أربعة أشخاص. قد يكون عنف الخطاب هنا محاولةً للتغطية على (سوءات) تاريخية (متوحشة) حفظها الأرشيف وتناقلتها المخطوطات، بقي الغرب غير قادر، بشكل عام، على امتلاك الجرأة على تسميتها بمسمياتها. إشكالية الإنسان الغربي المتحيِّز (نتحدث هنا عن المتحيِّز) أنه رفع نفسه، على إثر ارتقاء حقيقي على المستوى العلمي والتقني، فوق غيمة جعلته يشعر بفوقية أفضت إلى خسائر فادحة على فهم (الآخر) والتعامل معه وفق مفهوم (المصير الكوني المشترك). من ينظر من الأعلى معرَّض لخطر التعالي والانفصال عن واقعه وواقع الآخرين. طالما أن هذه، بشكل عام، البنية الفكرية للغرب، حاضرة وتروج بقوة في المجتمع الغربي، فقد يكون من المتعذر تشييد حوار تصادمي مرن قادر على الضرب على الوتر الحساس فيما يتعلق بالرهانات الإنسانية والسياسية والثقافية والاقتصادية. لكن ماذا عن فرنيل المعرفي (الذي كما أشرنا سابقاً جمع الشيء ونقيضه)؟ فرنيل المعرفي الثري والمثري للغاية. فرنيل هو، بالتأكيد، أيضا جزء من الاستشراق الذي قدم للقارئ العربي ما سوف نظل مدينين له ما بقيت الإنسانية. الاستشراق المعرفي (الأكاديمي) الذي ترك لنا دراسات ومقاربات وحوارات ونقاشات علمية في معظم مجالات العلوم إن لم يكن في جميعها. الاستشراق الذي قدم لنا نصوصاً ومقاربات فكرية مؤسِّسة في اللغة والأدب والفلسفة. الاستشراق الذي قال ما نرغب بقوله ولم نستطع، نحن، قوله. لم نستطع قوله أو بالأحرى لم نملك الشجاعة لقوله، حتى لو دخل هذا القول في إطار «ما يجب قوله». لقد تحدث الاستشراق المعرفي عنا بالوكالة لأننا ببساطة، غالباً، لم نكن -لا من حيث الأدوات المنهجية والمعرفية، ولا من حيث الحد الأدنى من حرية التعبير- قادرين على أن نصعد إلى ما صعدوا إليه من أطروحات وتساؤلات ذات قيمة عالية، ومفتوحة على التداول والحفر لمن يرغب في سبر محاورتها وسبر أغوارها، أو الاعتراض عليها. فرنيل في بعض أطروحاته من هؤلاء الذين قالوا ما نرغب ولم نستطع قوله، شخصية مدهشة على مستوى توليد الأفكار العميقة وطرح التساؤلات الكبرى حول القضايا المعرفية والأخلاقية والإنسانية، يتمتع بأسلوب خاص به، يسترسل في السرد والتفكير في مقاربته لأي موضوع، وفجأة يطلق جملة (ملفوظةً) عميقة تجعلك غير قادر على تجاوزها دون أن تستفزَّ بك عدداً هائلاً من الأسئلة والتساؤلات. فرنيل هو، بلا تردد، من أولئك الذين ملكوا القدرة على تحويل مقولات محددة قصيرة مركزة في قضايا محددة إلى تُحف فنية تستنطق حسابات تأويلية معرفية معقدة ومثرية للغاية. مقولات مقاومة للزمن، ومستفزة بقوة للجدل المعرفي حتى هذه اللحظة. له رأي يُدرَّس، سبق به -على حد علمي- أجيالاً من المنظِّرين حول عملية الترجمة وتعقيداتها. يتحدث عن المسافة التي تستلزم أن يلتزم بها المترجم تجاه النص، وعلاقة هذا الالتزام بطبيعة النص نفسه، وكيف يرى أن طبيعة النص هي التي تُملي علينا اختيار أسلوب الترجمة شريطة أن يعلن المترجم عن اختياراته ويدافع عنها، كما فعل هنا بحق (لامية العرب)، النص الذي أحبه وسكنه وعانى من أجله كثيراً، ولم يجد حرجاً بوصف ما أنجزه من أنه: عمل تقريبي. يقول لنا حول سياق ترجمته للامية العرب: «لا أستطيع أن أنهي هذه الرسالة دون أن أُعبِّر عن شكوى وأمنية. يبدو أنني أتفهَّم الشنفرَى وأتماهَى معه للحظة، وأشعر بالحاجة إلى غرس كل فكرة في روح أبناء عصري. هذه الحاجة تنبع من طبيعة الإلهام: ولكن تأمَّلوا قليلاً هذه المفارقة، الشنفرَى رجل مفترس، رجل دم، رجل لم يعرف قط في حياته القراءة والكتابة. يسكب الشنفرَى مراراته وكبرياءه في 28 مقطعاً خاضعةً لقافية ثرية ومتفرِّدة، ولقواعد نحوية معقَّدة للغاية. التعبير عند الشنفرى لا يعاني، بل يتمتع بقوة تُشبه قوَّة فكره. أما بالنسبة لي: هل أنا رجل مفترس؟ لا. أنا رجل يحب المطالعة والفكر، مترجم إلى اللغة الفرنسية، مترجم محلَّف اعتاد الكتابة على كل النغمات والمسارات التي يصعب على كثير من الناس أن يتخيَّلها، من مجال الكيمياء إلى النصوص الرومانسية، والحق أنني أتصبَّب دماً وعرقاً لكي أُنتج نثراً شاحباً باللغة الفرنسية يعكس هذا التدفق الهائل». أطلق بعد معاناته من عملية ترجمة «اللامية» وبعض «أيام العرب» ونصوص (تراثية) أخرى هذه المقولة اللافتة: «كل ترجمة لنص تراثي (قديم) هي تدنيسٌ لهذا النص». قالها فرنيل بعد أن توهم أنه بحضوره، على خلاف أستاذه الكبير سيلفستر دو ساسي المستشرق صاحب الإنتاج الغزير والمؤثر الذي لم تطأ قدمُه أرض المشرق، أنه بانغماسه في البيئة المعرفية وبخاصة الأزهرية سوف يتجاوز الصعوبات التي واجهها أستاذه. لقد كان فرنيل دقيقاً للغاية عندما وصف فعل ترجمة النصوص التراثية بأنه واجب لا بد منه، برغم أنه في نفس الوقت فعلُ تدنيسٍ. نترجم ونحن نعلم أننا نُدنِّس هذه النصوص؛ لأنه محكوم علينا أننا لا يمكن أن نصعد إلى قمتها في لغتها الأم. اجتهد فرنيل مستنطقاً كل مَن كان حوله من علماء الأزهر المتخصصين في الأدب، ومع ذلك لم يستنكف من أن يعلن للقارئ الغربي أنه يترجم ويُدنِّس، أن منتجَه ناقص بطبيعته لأنه نص (تراثي) معقَّد وفي الوقت نفسه لأنه يتعرض لفعل الترجمة، لأنه، بتصوري: كل ترجمة هي ناقصة بطبيعتها. يمكننا أيضا أن نتحدث، بلا تردد، عن منعطف فرنيل فيما يتعلق بدراسة اللغة (الحميرية/ الشحرية)، باعتبار أن ما قدمه لنا فرنيل في هذا النص عبارة عن اشتغال جادٍّ يُلبي شروط المعرفة الأساسية: وهما شرطا الفرضيات الوجيهة، والتحقق المعرفي. نتحدث عن فرضيات وجيهة كون فرنيل مسكوناً بفقه اللغات السامية وتلميذاً جادّاً لمن سبقوه في مدرسة الدراسات الشرقية في باريس. ونتحدث عن التحقق المعرفي فيما يخص الاستقصاءات اللغوية المباشرة التي قام بها كملازمته لأهل اللغة (حسن وآخرون) واللقاء الشهير مع أنطوان دابادي في مدينة جدة. إضافةُ فرنيل المتفرِّدة في هذا الموضوع تكمن -بتصوري- في المقال (الهام) الذي نشره حول اللغة الحميرية/ الشحرية). اجتهد فرنيل اجتهاداً لافتاً وبديعاً في دراسة الأنظمة الثلاثة لهذه اللغة: الصوتي والصرفي، والدلالي. ويُعتقد أن فرنيل، بمقاله، هو الذي لفت الانتباه إلى أهمية دراسة هذه اللغة، ممهداً الطريق لمن بعده لاستنباتها وكشف أسرارها وكنوزها. كم تمنيت أن أحصل على شيء أو أبحث عن شيء (إن كان موجوداً) يرشدني إلى كُنه الحوار والنقاش الذي دار في جدة بين فرنيل واللغوي الشهير أنطوان دابادي! سرديات الإغريق والرومان وعالم الخرافة مِن تُحَف فرنيل الفنيَّة هذه المقولة: «الغرائبي عزاء الجهلة». أطلق فرنيل هذه الصرخة على إثر المصادمة المعرفية المرنة التي قام بها بين ما قرأه في كتب التاريخ منذ سرديات الإغريق وبين معاينته الشخصية. يرى أن معظم سرديات الإغريق والرومان حول الأشياء القديمة غالباً ما تدخل في عالم الخرافة، ومليئة بالمبالغة. «الغرائبي عزاء الجهلة» لأن اللقاء بين الغرائبي والجهل لا يقدم -كما يتصور- سوى «علف ثقافي» مليء بالمغالطات والأخطاء؛ مما يذهب بنا إلى واقع يستحوذ فيه الخطأ على الصواب بسبب تراكم هذه الأخطاء. مقولة فرنيل تنطبق على سلوكيات التلاعب بالآخرين عبر استعمال الغرائبي في الخطاب. الله وحده يعلم حجم الخسائر التي تكبدناها في العالم العربي والإسلامي بسبب توظيف الغرائبي (الذي لا يمكن التحقق منه) في خطابات بعض الوعاظ لتوجيههم في الاتجاه الذي يرغب -بطريقة ماكرة- أن يسير فيه كثير من المتلقين الذين منحوهم ثقتهم بسبب تموضعهم الديني (المؤدلج). في التقاطةٍ لافتةٍ جدّاً يُلامس فرنيل مسألة علاقة اللغة بالهوية. باعتبار أن أقوى صور مقاومة (الغزو) أيّاً كان نوعه تكمن في عدم انزلاق الشعوب بتبني لغة (الغازي). يضرب فرنيل مثالاً على ذلك بما واجهه الوجود العثماني في المنطقة العربية وفي منطقة الحجاز على وجه الخصوص من رفض لتعلم وتبني اللغة التركية، ومحاصرة هذا الوجود في زاوية محدَّدة جعلته -كما يرى- غير قادر على إقناع السكان بوجاهة وشرعية حضوره. المقاومة عبر رفض التخلي عن اللغة؛ لأنه، غالباً: من يتخلى عن لغته ستكون لديه القابلية بأن يتخلى عن كل شيء. المفارقة العجيبة هي أنه، في الوقت نفسه الذي يُحيِّي فرنيل السلوكَ العربي في مقاومة الوجود العثماني عبر عدم تبني اللغة التركية كانت (بلده) فرنسا تمارس تهشيم اللغة العربية في الجزائر وتمارس سياساتها ومحاولاتها (البائسة) في تفريغ الثقافة الجزائرية وتعبئتها بالثقافة الفرنسية. عندما يتعلق الأمر بمصلحة الغرب وثقافته، لا مجال، غالباً بخاصة في القرن التاسع عشر وما قبله، للحياد عند فرنيل وكثير من المستشرقين. هكذا كانت الرحلة مع فرنيل، صعوداً وهبوطاً بين ذات متمركزة نصبت، غالباً، نفسَها، مالكة للحقيقة لا تجد حرجاً من ممارسة آفات الإقصاء والعزل والتذويب عبر الأحكام القيمية الجاهزة، وبين ذات معرفية أنتجت أفكاراً عميقة ومثيرة للجدل، مقاوِمة للزمن، قابلة للتداول والاستعمال والنقاش حتى هذه اللحظة حول مآزقنا الأخلاقية الراهنة.