ذاك اليوم وذاك المكان، تلك اللحظات المنتظرة التي كنت أرقبها بفارغ الصبر، وتلك الآلام التي حملتها وهناً على وهن والوصب الذي لاقيته عند المخاض، تلك الانحناءات التي أنحنيتها ليرضع صغيري وترضع صغيرتي.. كنت أفترش لهما صدري ليناما قريرين.. لم ألبث أن أنتزع من جسدي لأغطيهما بريش الحب والاهتمام.. كانا يضحكان ومع كل ضحكة يزول ألمي وأتناسى وجعي.. ها هما قد كبرا، أصبحا يسخران من كلامي.. أشعر عند الحديث معهما أنني لست كفوءًا لشيء فأنا لا أفهم ولا أعي. كان جسدي الذي حملهما يئن وتتهشم شراييني.. ظننت أنهما سيربتا على جلدي الذي نحتَّه لتغطيتهما صغاراً، كنت أخلعه لأغطي فاقتهما وأنا سعيدة بأنني أمٌ، والأم جود ساحله لا يجف تملؤه الذكريات واللآلئ والأصداف. أنام فأتذكر تلك الضحكات أقف فأتذكر ذلك الموقف والصرخات أجلس فأبكي من قال وهات.. أنام على فراشي فتحرقني الدمعات والأنَّات.. آهات تلو آهات والابن بات عاقاً، والابنة باتت تنسى فضل الأمهات.. لا بأس سألملم جراحي وأنصت لحديث الجدات، فقد كانا يقصان علينا قصص الأمهات، ثم يوماً يقصان علينا قصص العقوق والأبناء. كنا نسمع كلاماً قديماً بات لا يُسمع ولا يُرى، أي برِّ وأي إحسان؟! ها هو الذي اشتد عوده صار يدفعني بيده التي كنت أقبلها حباً وفرحاً، رد الإحسان بالسوء سخطاً.. وها هي ابنتي التي نضجت باتت تنظر لي بازدراء وكأنها ترجو لي الممات.. أصبحت أقصُّ أجنحة العقوق حتى لا تطير الدعوات إلى السماء فتقع على الأرض وتهوي بها عمراً في العذاب.. ثم تذكرت قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم).. هنا غفرت وعفوت، فالأم تبقى هي الأم وإن لم تلقَ إحساناً. أيُّها الأبناء.. رفقاً بالوالدين فقد قرن الله عبادته بطاعتهما (ولا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريماً واخفض لهما جناح الذُّل من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً).