تقدمت فنلندا البلد الصغير الواقع في أقصى شمال أوروبا رسميا بطلب الانضمام إلى حلف الناتو، في تطور لم يكن متصورا حتى قبل أسابيع قليلة، وتحديدا قبل بدء الحرب الروسية على أوكرانيا. المأزق الروسي كبير للغاية، فإمكانية الرد من الناحية العسكرية تبدو مسألة في غاية الصعوبة، فالحرب على فنلندا سوف تكون حربا على الناتو حتى قبل البت في طلب الانضمام، باعتبار أن معاهدة دفاع مشترك تم توقعها بين بريطانياوفنلندا، بل إن الحكومة البريطانية برئاسة بوريس جونسون أرسلت قوات بالفعل إلى فنلندا، وإذا دخلت بريطانيا في حرب مع روسيا بموجب معاهدة الدفاع عن فنلندا فهذا يعني دخول دول الحلف في هذه الحرب. السويد تسير على نفس الطريق وهي تستعد أثناء كتابة هذه السطور بدورها لتقديم طلب الانضمام. هذه الدول تجاوزت كل المعوقات واجمعت نخبها السياسية على ضرورة الانضمام باعتبار الغطاء الأطلسي وبشكل أدق الغطاء الأمريكي هو الضمانة في مواجهة الدب الروسي المتربص بهذه الدول. صحيح أن هناك معارضة تركية لانضمام الدولتين إلى الحلف الأطلسي، ولكن هذه المعارضة لن تقف حجر عثرة حقيقية في وجه الانضمام، باعتبار أن ضم الدولتين قرار استراتيجي حيث تكون الكلمة الفصل للولايات المتحدةالأمريكية، أكثر من أي طرف آخر. التهديدات الروسية لفنلندا ومن بعدها السويد بدأت باكرا على لسان ديمتري ميدفيدف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي الذي وصل إلى حد التلويح بالسلاح النووي، أما نائب وزير الخارجية الروسي فقد أكد أن موسكو سترد على أي إجراء في هذا الصدد ستتخذه هلسنكي واستكهولم، لكن عندما وقعت الواقعة، كانت ردة الفعل الروسية فاترة، وخطاب الرئيس الروسي لم يكن بمستوى توقعات المراقبين في الدول الغربية، فحديث الرئيس الروسي أكد أن ردة الفعل الروسية ستكون مرتبطة بتوسيع البنية التحتية العسكرية في هذه المنطقة. وهذا تراجع كبير لأن توسع البنية التحتية حدث بالفعل قبل حتى تقديم طلب الانضمام وذلك عبر دخول قوات بريطانيا إلى فنلندا، أضف إلى ذلك أن مصطلح (توسع البنية التحتية العسكرية) مصطلح فضفاض ويشير عمليا أن لا وجود لردة الفعل المتوقعة من قبل موسكو، وهذا منطقي في سياق الحرب الأوكرانية المشتعلة. عمليا الخيارات الروسية تبدو محدودة فإشعال جبهة جديدة في فنلندا يعني فتح جبهتين سوف تكون تكلفتهما باهظة من الناحية العسكرية والسياسية والاقتصادية، كما أن جبهة فنلندا سوف تكون مباشرة مع حلف الناتو وهذا خيار صعب وخطير جدا وهذا ما يدركه الجانب الروسي. لقد أصبحت أوكرانيا قيوداً ثقيلة في أقدام الدب الروسي، وكلما طال أمد الصراع هناك كلما ازدادت الأعباء على موسكو بالرغم من الأداء الجيد للاقتصاد وبعض التقدم على الناحية العسكرية إلا أن الخسائر كبيرة للغاية وما تم بناؤه في ثلاثة عقود بدأ يتآكل ليس اقتصاديا وحسب وإنما جيوسياسيا ودفاعيا. الوضع خطير للغاية فعندما اقتربت طائرات روسية من أجواء الحلف، وخلال دقائق كان هناك طائرات تقوم بطلعات فوق البحر الأسود وبحر البلطيق من قبل بولندا والدنمارك وفرنسا وإسبانيا ورومانيا والمملكة المتحدة. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان محقّا الأسبوع الماضي عندما أشار إلى ضرورة عدم إذلال روسيا، إن حشر الدب الروسي في الزاوية قد تدفعه إلى ردة فعل غير متوقعة وربما تكون خطيرة للغاية. عالم ما بعد أوكرانيا بدأت ترتسم ملامحه في بحر البلطيق والأكيد أنها سوف تمتد إلى مناطق كثيرة في هذا العالم المضطرب.