منذ ظهور الأنظمة الدولية الحديثة، نهاية القرن الخامس عشر، وحروب القوى العظمى على مكانة الهيمنة الكونية كانت تدور رحاها على المسرح الأوروبي. كانت الحروب الفاصلة بين القوى الكبرى هي التي تحدد مصير النظام الدولي، لتكون غنيمتها الرئيسية في أعالي البحار، في الاستكشافات الجغرافية مجالاً للتوسع، وبحثاً عن الأسواق والمواد الخام. من المسرح الأوروبي كانت تنطلق شرارة الحروب، وفيه تضع الحروب الفاصلة في التاريخ الحديث أوزارها. مهما كان شكل الأنظمة القطبية التي تحكم العالم، فإن سلام العالم وأمنه يبدآن من أوروبا وينتهيان عندها. الأمن الأوروبي كان حلماً لأوروباً وكابوساً يقض مضاجع أركان العالم، قديمه وجديده. ساد اعتقاد خادع العالم، عقب الحرب الكونية الثانية، بأن السلام سيعم العالم، بدءاً من سيادة الأمن في أوروبا. عزز ذلك الوهم التطور التكنولوجي في الأسلحة المهلكة، التي رفعت من تكلفة الحرب وبشّرت بعائد التكامل. تطور أنظمة الأسلحة النووية أوجد نظاماً لتوازن الرعب النووي بين القوى العظمى، بدا وكأنه أكثر استقراراً من نظام توازن القوى التقليدية؛ إلا أن نظام توازن الرعب النووي الجديد هذا، وإن كان جذاباً لتبصر إمكانات التعاون والتكامل بين الأعداء التقليديين في أوروبا، إلا أنه كان نظاماً هشاً، نظراً لاتساع مجاله الحيوي وحركته، بضمه لقوى بعيدة عن المسرح الأوروبي، الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص. كذلك، نظام توازن الرعب النووي كانت تحكمه أيديولوجيات متطرفة وغير متسامحة.. بالإضافة إلى أنه لم يتمكن من انتزاع غريزة الصراع نفسها، التي كانت تجد متنفساً لها في حروب تقليدية محدودة، حول العالم. في كل الأحوال: نظام الحرب الباردة الذي ساد نظام القطبية النووية الثنائية أكثر من أربعة عقود ونصف، لم يكن مستقراً، رغم قناعة القوتين العظميين فيه، باستحالة نشوب الحرب النووية، كما أن نظام الحرب الباردة لم يكن يوفر ضمانات الاستقرار المطلوبة، لقد كان نظاماً هشاً ترتفع فيه احتمالات الصدام النووي، بالصدفة أو الخطأ أوسوء التقدير. لكن ما جعل العالم يلتقط أنفاساً جيدة لأكثر من سبعة عقود، ليس الحذر من نشوب حرب عالمية ثالثة، بل عوائد التكامل الاقتصادي بين أعداء الأمس، على المسرح الأوروبي، حيث بؤرة عدم الاستقرار الرئيسية في العالم، لكن المشكلة كانت أن هذا التكامل حدث بين أعداء تقليديين في الغرب، دون ضم أطراف رئيسيين في معادلة الصراع الأوروبي الجديدة في الشرق. الاتحاد السوفييتي، ومعه كتلة أوروبا الشرقية، كانوا خارج حالة الرفاه والديمقراطية التي عاشتها مجتمعات أوروبا الغربية، حتى انهيار نظام الحرب الباردة. وبعد انهيار نظام الحرب الباردة، استيقظت غريزة الصراع في الغرب، ليتمدد نفوذه شرقاً، حيث عدوه التقليدي (الدب الروسي)، الذي دخل في بيات شتوي طويل، إلا أنه لم يتجمد، ولم تنعدم لديه غريزة البقاء، بل ولا حتى شهوة الافتراس. ما يحدث اليوم في منطقة القرم وعلى الحدود الأوروبية الآسيوية، بين روسيا وأكرانيا، إنما هو صحوة للدب الروسي وانتباهة عنيفة لعدوه التاريخي في الغرب، الذي أيقظه من بياته الشتوي الطويل قلقاً على أمنه ومجاله الحيوي حول عرينه القطبي المتجمد. أوروبا لم تعد آمنة، والولاياتالمتحدة لم تعد لديها القدرة ولا الإرادة للحفاظ على مجالها الحيوي في أوروبا على تخوم حدود روسيا الأوروبية، كما أن الرادع النووي، لم يعد بتلك الحساسية غير المرنة، التي كان يتمتع بها في عهد نظام الحرب الباردة. أوروبا غير آمنة، العالم لن يكون آمناً، ولا مستقراً.