يبدو من الواضح للمتأمل في تطورات المشهد الثقافي المعاصر، ازدياد تصدير النصوص الأدبية عبر وسائط تداولية سمعية وبصرية مختلفة، وتكاد تكون الموسيقى أكثر هذه الوسائط مصاحبةً لحضور النصوص الدعائي. ولا غرابة، فالموسيقى فنٌّ عالمي، ولها قدرة على تغير الحالة المزاجية والتأثير في السلوك الإنساني، وعلاقتها مع النصوص الأدبية: شعرًا ونثرًا، قوية وتاريخية في كل الثقافات، فهما يتشاركان فكرة التأثير والتأثر في العملية التواصلية. وفي الشعر تبدو العلاقة أكثر متانة، إذ يتقاطع الشكلان في بعض المكونات الفنية الأساسية كالإيقاع والوقفة واللحن. حديثنا هنا ليس عن القصائد الغنائية أو الملحنة، بل عن قالب صوتي جديد، وعن مستوى فني آخر، تحل فيه الموسيقى وسطًا رئيسًا بين طرفين: نصّ وجمهور! إن إضافة موسيقى لقراءة الشعر مثلاً تجعل القصيدة الملقاة كيانًا صوتيًّا ديناميكيًّا جديدًا، ويصبح الجمهور أمام نسخة أدبية شفوية جديدة، تشبه تلك المشاهد التصويرية للمسلسلات أو الأفلام، إذ تُستخدم الموسيقى الآلية فيها لزيادة التأثيرات الدرامية في المشهد ونفسية المتلقي. لذا، يجب ألا ننظر إلى هذا الكيان الصوتي الجديد بكونه مجردَ موسيقى في خلفية مقطع شعري أو نثري وحسبُ، بل ننظر إليه مستفهمين عن طبيعة هذه العلاقة المتمازجة بينهما، وعن تأثيراته المصاحبة في ذهن ونفسية المتلقي، وذلك لأن هذا التركيب الصوتي على الرغم من إثارته للجمهور وتقريبهم أكثر من عوالم الشعر، مثلاً، وزيادته من نسبة انتشاره بينهم، فإنه في الآن نفسه قد شوَّش عليهم وجعل انطباعهم -لا شعوريًّا- مرتهنًا لكل العناصر التي يسمعونها، وأولها الموسيقى، ونقَلَ تركيزهم لا شعوريًّا أيضًا من مجرد الاستماع إلى القصيدة أو تحليل عناصرها كالمفردات أو التراكيب اللغوية المستخدمة فيها، إلى الحديث عن شعورهم، وشعورهم فقط تجاه القصيدة، وذلك بسبب تأثيرات الموسيقى النفسية والعاطفية في العقل الباطن. ولعل هذا يذكرنا إلى حدٍّ كبير بقوة تأثير الأيديولوجيات الدينية والسياسية قديمًا وحديثًا في أوروبا، التي استطاعت التأثير في الجمهور عبر التاريخ بتجييش عواطفهم لينخرطوا لا شعوريًّا في صراعات وحركات دينية وحزبية كبرى. والموسيقى ليست ببعيد عن ذلك في فعلها، فهي تقولب الجمهور في قالب متلقٍّ واحد، وتصهرهم جميعًا في روح جمعية واحدة، وحالة نفسية مماثلة، وعاطفة مشتركة، ليصبحوا متأثرين بالقصيدة عاطفيًّا فقط وبدرجة مماثلة بسبب الهزة التأثيرية التي تحدثها الموسيقى في عقلهم الجماعي الباطن (Collective unconscious)، فالجمهور النفسي يمتلك ذهنية واحدة بعكس الجمهور العادي، ويتحرك عبر اللا وعي تمامًا كما فنَّد لذلك علماء النفس كارل يونغ وسيغموند فرويد وغستاف لوبون، وعالم الاجتماع إميل دوركايم. في هندسة الجمهور (The Engineering of Consent) يقول إدورد بيرنيز: إن إعادة صياغة الجمهور أسهل من تغيير المنتج، وهو حقًّا ما تحدثه الموسيقى هنا، فهي الوسيط بين النص المُلقى والمتلقي، ولها السلطة في جعلهم على مستوى واحد من التأثر مع النص. فالموسيقى بتكوينها الاتصال العاطفي اللا شعوري بين النص والجمهور أخذت تفرض على الجمهور قبول النصوص الأدبية أيًّا كان مستواها الفني. أجل، الموسيقى أداة قوية وغير مرئية، ومن هذا المنطلق يمكن بها التحكم في النص الأدبي والمتلقي معًا، بجعل منظوم الشعر أو ركيك النثر يرتقيان لمرتبة الرفيع من الشعر والسرد دونما شعور، فهي عنصر أساسي دائمًا، وتعطي عمقًا جماليًّا وفنيًّا لأي تجربة مهما كانت قيمتها وجودتها. وبهذه المصاحبة الصوتية بين النص والموسيقى لم ينجح النص في الخروج بطريقة فنية مختلفة وحسب، بل وبتضمينه قيمةً أو معانيَ غير موجودة فيه أساسًا؛ أوجدتها الموسيقى في الجمهور باستثارتها مخيلاتهم الباطنة فتخيلوها نصوصًا مؤثرة! إن هذا الاشتغال الصوتي الجديد محفوف بالمخاطر، فهو محرك أساسي لرواج وتصدير مجموعة من النصوص التي لم تكُن لتلقى قبولاً، بل ربما كانت ستموت في مهدها لولا اتكاؤها على الموسيقى التي ملأت فجواتها وسدت قصورها، كما أنه مصدر تشويش إذ يعطي عدم جدية في تلقي النص الأدبي، فانطباع الجمهور مرتهن بهذا العنصر بما يحمله من تفاعلات نصية وفنية ونفسية مجتمعة، وليس نصية فقط. في حقل صناعة الأفلام لا توضع الموسيقى إلا بعد الانتهاء من مراحل التصوير والتحرير والتدقيق للنصوص، ومن ثم إيجاد الموسيقى المناسبة والمؤثرة للمشهد، فوجودها ضرورة وليس ترفًا. وهو ما يجب أن يكون مع هذا الكيان الصوتي الجديد، إن سلمنا بطبيعة التطور والتكامل بين الفنون، وأن الموسيقى ستظل مشرقة في حقل الإبداع الأدبي؛ أي يجب أن ينظر في النص بدءًا ويقرأ بعيدًا عن المؤثرات لتُعرف أبعاده الفنية، ثم توجد له الموسيقى التأثيرية المناسبة من دون ابتذال لقيمة النص ولا تشويش على المتلقي بإسفاف مبتذل هدفه الشهرة وزيادة مستهلكين على حساب العمل الأدبي والذائقة.