يفترض تراجع علاقات لبنان مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، إجراء قراءة موضوعية وعميقة لخلفيات وتداعيات الأزمات التي اعترت هذه العلاقات في الأعوام الأخيرة، وذلك بهدف إعادة وضع لبنان على المسار الذي يخدم مصالحه العليا ويلبي طموحات شعبه. ومن هذا المنطلق، فإن التصريحات والمواقف المسيئة التي استهدفت المملكة ودول الخليج من قبل وزير الخارجية الأسبق ووزير الإعلام الحالي، هي أعمق من «مجرد مواقف شخصية لا تمثل الحكومة»، بحسب توصيف بعض المسؤولين اللبنانيين لها، وبالطبع هذا التوصيف السطحي قاصر عن إيجاد الحلول لهذه الأزمة الدبلوماسية والسياسية. كما أن المحاولات التي تجري لإقناع وزير الإعلام بتقديم استقالته بعدما تعذرت إقالته، بسبب الانقسامات الكبيرة داخل الحكومة، هي أيضاً بمثابة حلول آنية لا تتصدى لجوهر المشكلة القائمة، التي عبر عنها وزير خارجية السعودية بالقول إن المشكلة في لبنان تتعلق بهيمنة حزب الله على الدولة اللبنانية وقراراتها، بدليل أن الوزير السعودي كان واضحاً من حيث الفصل بين الحكم والحكومة وبين الشعب اللبناني وبالتالي استمرار عمل اللبنانيين في المملكة. وعليه فإن المدخل المنطقي لوضع الأزمة على سكة الحل هو وقف سياسة التذاكي والتباكي بهدف الالتفاف على المشكلة سواء بالتركيز على إقالة الوزير أو الدعوة للحوار مع المملكة أو العزف على وتر العلاقات الأخوية التاريخية ومصير المغتربين والمصدرين والمزارعين. والتوجه بدلاً من ذلك إلى البحث الجدي في جوهر المشكلة المتمثل -بدون لف ودوران- باتفاق الدوحة الذي يعتبر نقضاً لاتفاق الطائف وخروجاً على الدستور لأنه اعتمد بدعة «الديمقراطية التوافقية» التي كرست هيمنة حزب الله على الحياة السياسية سواء حظي بالأغلبية النيابية أم لا. وعلى الرغم من أهمية خطوة استقالة الوزير، فإن التصدي الحقيقي لهذه المشكلة السياسية العميقة يجب أن يبدأ مما أعلنه غبطة البطريرك الماروني بشارة الراعي بدعوة رئيسي الجمهورية والحكومة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف هذه الأزمة، ومن قراءة واقعية لها باعتبارها مرتبطة بمشروع إقليمي يستخدم أداوت محلية بهدف سلخ لبنان عن محيطه العربي وإلحاقه بالمحور الذي لا يتفق لا مع هوية لبنان وتاريخه السياسي ولا مع المصالح العليا للدولة وتطلعات الشعب اللبناني. بالطبع تدرك دول الخليج تعقيدات الوضع اللبناني والتداعيات الناجمة عن وجود قوة مسلحة موازية للقوى الشرعية تفرض إرادتها على الدولة، ولكن ما تركز عليه القيادة السعودية هو الموقف الملتبس للسلطات اللبنانية، من المواقف والتدخلات في شؤون عدد من الدول العربية، وعدم توفر الإرادة السياسية لهؤلاء المسؤولين لمواجهة هذا الوضع الشاذ. وإذا كانت المملكة تعاملت بحذر مع ما سمي «بسياسة النأي بالنفس» عن الصراعات الإقليمية، فإنها وجدت في المقابل من قام بتقويض هذه السياسة والانقلاب عليها من خلال الانخراط بمحور معادٍ استهدف الأمن الإقليمي العربي ووضع دول الخليج أمام تحديات أمنية وسياسية غير مسبوقة. وعليه، انتظرت المملكة، تصحيح هذا المسار من خلال تبني إجراءات وسياسات واضحة تثبت انتماء لبنان إلى محيطه العربي، ولكن للأسف، وعلى الرغم من أن البيان الوزاري لحكومة الرئيس ميقاتي دعا لأفضل العلاقات مع الدول العربية، فإن المملكة لم ترَ في المقابل، سوى مواقف كلامية بقيت قاصرة عن إعادة بناء الثقة مع المملكة ودول الخليج الأخرى، وعن إثبات قدرة الدولة على ممارسة دورها في السياسة الخارجية. السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا كنا نتوقع من المملكة العربية السعودية ودول الخليج بعد هذا المسار ومقابل الارتباك في مواجهة تداعيات التصريحات والانقسام الواضح بين أركان السلطة حول طبيعة الحلول المقترحة؟ وإذا كانت الاتصالات الدولية قد أفضت وفي هذا الواقع المأساوي الذي يجتازه لبنان، إلى عدم استقالة رئيس الحكومة، فإن هذا الأمر لا يعفي المسؤولين من طابع العجلة واتخاذ إجراءات عملية لإنقاذ الموقف، خصوصاً في ظل التدابير الأخيرة التي اتخذتها المملكة وبعض دول الخليج، التي لا تعني مطلقاً أنهم يدفعون باتجاه تأزيم الوضع السياسي أو امتلاك أوراق تفاوضية كما يدعي البعض، إنما تهدف إلى خلق صدمة سياسية من شأنها أن تساعد في تصويب المسار الذي يساهم بإيجاد الحلول السريعة للأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية. وفي الواقع لا يبدو، لا عقلانياً ولا منطقياً، مراهنة السلطات اللبنانية الرسمية على نجاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والحصول على مساعدات من الدول العربية، في الوقت الذي تبدو هوية لبنان السياسية والاقتصادية موضع تساؤل وخلاف، وفي الوقت الذي ينخرط لبنان في المحور الذي يناصب العداء للعرب ويعرض أمنهم لأخطر التحديات. لذلك فإن التعامل مع الإجراءات المتخذة من المملكة وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي على أنها ردة فعل على تصريحات وزير الإعلام اللبناني، والهروب من مواجهة جوهر المشكلة والتصدي للأزمة بأبعادها الخطيرة، ينذر بأوخم العواقب؛ لذلك تقضي المصلحة الوطنية التعامل بدقة مع هذه الأزمة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية بوصفها نتاج سلسلة طويلة من الإساءات للمملكة ومسؤوليها ولدول الخليج، وجزءاً من مشروع جر لبنان إلى موقع معادٍ لمحيطه العربي، وهي أيضاً نتاج من تراكم المواقف الملتبسة والتردد، وعدم التصدي الفعلي لتهريب المخدرات إلى السعودية ودول الخليج وتعريض الأمن الاجتماعي لشعوب هذه الدول إلى أبشع المخاطر. إذن المطلوب وقفة تقييم شاملة، تستند إلى موقف مبدئي من هوية لبنان العربية وما يفرضه ذلك من التزامات لا تبقى حبراً على ورق، وإلى تكريس مبدأ مصلحة الدولة العليا، حيث إن ابتعاد لبنان عن محيطه الخليجي والعربي، يعني حكماً تقويض مستقبله السياسي والاقتصادي والمالي، والانقضاض على الدور التاريخي الذي لعبته النخب اللبنانية في تطوير البلدان العربية، التي وفرت لهذه النخبة فرص العمل اللائقة، كما وفرت للبنانيين كل اللبنانيين فرص أعمال كثيرة ومتنوعة. أخيراً، نذكر، من نسي أو تناسى أن لبنان بلد عربي الهوية والانتماء، وعلى عاتق المسؤولين ترجمة هذا الانتماء، من خلال التزامات جدية تقضي بتبني سياسة خارجية هدفها بالدرجة الأولى استعادة علاقة لبنان بمحيطه العربي، كما ندعو الجميع للتبصر بالوقائع والإحصاءات، التي تؤكد، أن الجزء الأكبر من الصادرات اللبنانية تذهب إلى أسواق بلدان الخليج، وكذلك حال الاستثمارات والمساعدات وتحويلات المغتربين التي تتدفق إلى لبنان، وإن فقدان لبنان لثقة الخليج سوف تكون له تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا يستطيع لبنان تحملها. فاتقوا الله في الحفاظ على هوية لبنان وعلى مصالح الشعب اللبناني الذي لن يسامح إذا استمر هذا المسلسل من التدمير الذاتي والانسلاخ عن المحيط العربي والخليجي بصورة خاصة.