عجزت (سارة) حفيدتي عن النوم في تلك الليلة.. اقتربتُ منها وبيدي كوب حليب.. فتحت عينيها ببطء مع ثمالة كوابيس أيقظتها مرات عدة.. كان صرير رياح (كنساس سيتي) ينذر برعد، وبرق، ومطر عنيف.. كان ذلك مصدرها خوفها.. سارعت بالمسح على جبينها، وتلاوة آيات من القرآن، آيات الطمأنينة وإزالة الخوف، وهزم الأرق.. حاولت بمسح يدي على جبينها أن أجعل من كفي معطفاً يحتوي على كل ذلك.. تبادلت معها بعض الكلمات القصيرة، علها تخلد للنوم.. توسلت لي بصوتها الناعم الرقيق أن أبقى معها، وأن أحكي لها حكاية. لقد كنت أحفظ في أيام حداثتي نخبة من القصص المختلفة، قصصتها كلها على أحفادي فنفد المعين، وفرغت الجبة. لكن نهم حفيدتي في سماع القصص كحبي لها، لا حدود له.. من أين لي أن آتي ذاك المساء بقصة طريفة وجديدة في نفس الوقت..! كان من السهل إعادة قصة قديمة على مسمعها، لكن ذاكرتها الحديدية دائما تدفعها إلى أن تقاطعني قائلة: (ياجدو هذه القصة أعرفها، أريد سواها) ابتداع القصص مثل الرقص، مثل الكتابة الإبداعية، كلاهما يصهر الأعماق، ويفجر الإبداع الجامد في الجسد.. مثل ينبوع متفجر أو فيضان هادر. تذكرت فجاءة أنني لم أقص عليها أبدا حكاية الغراب المغرور بحسن صوته، والثعلب الماكر الذي ينتزع منه الجبنة بدهائه وحيلته.. أخذت أحكي لها القصة كشلال ليس أمامه أي عائق، وتفننت في تقليد نعيق الغراب، وأسبغت بعض البهارات التفصيلية، حتى أقرب أحداث القصة لعقليتها كطفلة، وحتى وصلت إلى: ما إن فتح الغراب فاهه ناعقاً أو مغرداً كما كان يعتقد (قاق.. قاق) حتى سقطت الجبنة، فالتقطها الثعلب فاراً فرحاً بما جنى... استغرقت (سارة) في الضحك الطفولي، كانت ضحكتها كأجراس الفضة.. هنا سألت حفيدتي متودداً - أأعجبتك القصة؟! أجابت: - نعم ياجدو حلوة.. - ومن أحببت أكثر الغراب أم الثعلب؟ - الثعلب ياجدو.. - حسناً.. أنت ماذا تحبي أن تكوني؟ - ثعلب بالطبع ياجدو، شاطر وداهية وعفريت.. ثم أغمضت أميرتي عينيها، وغمرها السكون والهدوء وراحت في سبات عميق. يا الله ما أجملها مسندة رأسها إلى الوسادة مبتسمة تحتضن العالم بكلتا يديها.. وأنا أمسح على رأسها وشعرها الأشقر المفلفل المتناثر على كتفيها. مرت عليّ برهة، وأنا أتساءل في قرارة نفسي: ترى هل أخطأت حقاً في رواية هذه القصة لصغيرتي..؟! أليست التربية الحق في إعداد الطفل إعداداً كاملاً للحياة..؟! ثم أليست حياتنا الاجتماعية، صورة صارخة للكذب، والمنكر، والدهاء، والخداع..؟! أي حفيدتي لقد أحسنت صنعاً، عندما اخترت أن تكوني ثعلباً، لا غراباً في هذا الزمان... فالمستقبل ليس للأيدي اللينة التي تنتج قمصاناً بيضاء. المستقبل ليس للبراءة لأنها نقيضه، لذلك الورم الذي طفح على جلد الأرض، وأكتنز بالصديد، والبكتيريا الملوثة، والعفن، والسموم. المستقبل ليس لمن يحمل بيده غصن زيتون، في طرق موغلة في المجهول، وطقوس موغلة في الزيف، ولغات موغلة في الخبث، وأوهام تنكسر على رؤوسنا كنصل السكين. بينما كنت مستسلما لكل تلكالتأملات المتناقضة، صحوت على صوت حفيدتي وهي تهزني بيدها الناعمة تناديني بلطف ودلال، وعينيها تبرقان في الظلام كعيني قط شقي: - ياجدو قص عليّ حكاية ثانية حلوة كحكاية الثعلب والغراب...!