في كل مرة أزور «جدة التاريخية» أستنشق رائحة عبق التاريخ وسحره العفوي الذي يلامس شغاف روحي.. وبين البيوت الضيقة والأزقة النحيلة المرصوفة بالحجر أشعر بنزعة شبقة لتتبع الصور القديمة لتاريخ جدة.. وحين يحدوني الحنين لزيارة أخرى لتلك المنطقة أشعر بقصة غرام في حب مدينة فأعانقها بحميمة أزقتها الحيوية ومبانيها العتيقة.. أحسُّ أنني عبرت الماضي لأستقر على أعتاب الحاضر والمستقبل.. فبقيت تلك المنطقة قريباً من ذاتي حين يأخذني عذب عبقها الذي لا يزال في ذاكرة «الجداويين» بألوان طيف حكاوي جداتهم ومهرجانات «كنا كدا» التي تعود بهم إلى الخلف طويلاً. تلك المنطقة التاريخية من «جُدَّة» التي عشقت تاريخها؛ في بطنها الكثير من المعالم التراثية؛ منها: 600 مبنى تراثي، و36 مسجداً تاريخياً، وخمسة أسواق رئيسية تاريخية، وممرات وساحات عريقة، فضلاً عن الواجهة البحرية القديمة. حين بدأت أكتب مقالتي لهذا الأسبوع تشنفت أذناي بخبر إعلان سمو ولي العهد بإطلاق مشروع «إعادة إحياء جدة التاريخية»، ضمن جهوده للحفاظ على المواقع التاريخية وصونها وتأهيلها، ولتكون «جدة التاريخية» مركزاً جاذباً للأعمال والمشاريع الثقافية، ومقصداً لرواد الأعمال الطموحين، وإبراز المعالم التراثية الحافلة بها المنطقة، وتحقيقاً لمستهدفات «رؤية 2030». المشروع يقع على مساحة 2.5 كيلو متر مربع، ويمتد العمل فيه 15 عاماً، وسوف يحقق الكثير من الأهداف؛ أبرزها: تطوير ذلك المكان التاريخي ببنية تحتية وخدماتية، وتطوير المجال الطبيعي والبيئي، وتطوير المجال المعيشي للمنطقة، وتحسين جودة الحياة، وتعزيز الجوانب الحضرية، وخلق بيئة متكاملة تتوفر فيها مقومات طبيعية متعددة؛ بواجهة بحرية مطورة بطول 5 كيلو مترات، ومساحات خضراء وحدائق مفتوحة تغطي 15% من إجمالي مساحة جدة البلد. وبالعودة إلى تاريخ جدة القديمة؛ فإنها ذات حضارة عبقة بمعالمها ومبانيها الأثرية والتراثية، وحاراتها الأربع القديمة، وأزقتها الضيقة، وبرحاتها الفسيحة، ومساجدها الأثرية، وأسواقها التاريخية، وسورها وبواباتها من كل الاتجاهات التي بقيت إلى عام 1947. أما الأعوام الأخيرة فشهدت جدة التاريخية عدة مراحل؛ في عام 2014 أدرجت ضمن مواقع التراث العالمي ب«اليونسكو»، وفي عام 2018 أمر خادم الحرمين الشريفين بإنشاء «إدارة مشروع جدة التاريخية» ترتبط بوزارة الثقافة وخصصت لها ميزانية مستقلة، وفي عام 2019 أمر ولي العهد بدعم مشروع ترميم 56 مبنى آيلة للسقوط في المنطقة ب50 مليوناً كمرحلة أولى، ثم جاء قبل أيام إعلان الأمير محمد بن سلمان بإطلاق مشروع «إعادة إحياء جدة التاريخية».