من شرفة عتيقة ترتجف إن هطل عليها المطر، وتبكي إن طلع عليها الحنين.. أكتب إليكم اليوم، بعد أن عدت لمنزلي... زهور عباد الشمس في البعد تهفو من الريح بأوراق عباد الشمس، وأقراصه الذهبية تسبح في شمس (أغسطس)، حولي تتحدث الطيور، أصوات الطيور أشبه بدوزنة العود. على كتفي يهبط أحياناً، ورق أخضر يميل إلى الصفرة، يستبق الخريف. مطر خفيف يشبه الرذاذ الناعم الذي ينزل على جبين المحموم عندما يشطف بماء الورد. أخيراً عدت لمنزلي، لا أحد يعرف معنى فقد الخصوصية، حتى ينحبس جسده في سرير، وتصبح روحه وكيانه مستباحين في المستشفى. لا سبيل للنعاس، ولا أمل في إغفاءة، أو حتى تمدد كامل، أو استلقاء. في ذلك السرير تعرف حقيقة معنى أن توهم النملة نفسها أحياناً أنها أضخم الحيوانات. ودّعت جارتي العجوز التي تقيم في السرير المجاور لسريري في ذات الغرفة، عجوز أمريكية طيبة من جذور أيرلندية، اخترت غرفة مشتركة معها، لأنني أكره الوحدة، قد يكون الخوف أيضاً، لا أعلم...! كانت بجواري تلك العجوز (كحمامة المعري) لا أعرف إن كانت تبكي، أو تغني، تقوم وتقعد ولا تكاد تتحرك. تلمع سن ذهبية في فمها، وتغير قنوات التلفزيون دون استئذان. كانت العجوز تبتسم لي كطير ذابل فقد وليفه، وأنا أودعها، كانت حنونة عليّ، في محطتي تلك في (مايو كلينك) والعمر محطات. كانت تضع يدها على جبيني، عندما يداهمني الألم كجرح مفتوح على الأزل، تتمتم بأدعية لا تنتهي. أحياناً عندما يجتاحك الألم تحس أنك كرسي فقد ساقيه، تتألم كصوت سكين في طبق بورسلين أبيض، يجعلك تشاهد عصافير لا حصر لها، وتلمس سقف السماء بأطراف أصابعك، تفتش عن بعضك كثعبان مطارد. كانت تلك العجوز حنونة وصادقة. لقد اكتشفت في هذه المرحلة من العمر، أن الحياة تحتاج إلى قليل من الحب وكثير من الحنان، وأن لا شيء يساوي إحساسك بالحنان كالحنان نفسه، وأن ليس في الوجود أمتع من شعور بقلق صادق حنون على إنسان، وأن هذا الحنان هو تذكرة الهروب الوحيدة الممكنة من قسوة الحياة. كلام كبير من طفل كبُر، وأصبح أجمل أطفال الكون شعورياً. استقبلني سرب من الطيور البيضاء، المتجهة للجنوب عند بوابة القرية يتصاعد كتنهيدة.. كأنه هموم الحياة تجري.. يا الله.. ما أجمل العودة للبيت، غزة في القلب تنمو كنباتات فطرية، وتتكاثر وتختلط بالذكريات الجميلة في هذا البيت. المنازل الحميمة تعطي للقسوة وجهاً آخر، وملامح أخرى، ومعنىً مختلفاً للحياة. كانت الدنيا (تزغرد) لي، ازددت أنساً وامتلاءً، كانت روحي ذاتها ترقص. كنت كمن يقرص نفسه، ليتأكد أنه يعيش في الواقع وليس في الخيال. صوت زوجتي يلمع في المنزل مثل لمع البلور، كانت تعد لي وجبة إفطار بيتوتية، خبز محمص، وزبدة، وقهوة، وعصير برتقال طازج، وبيض مقلي، ممزوج بالزعتر والحبق والطماطم وجبن ريفي. ما أجمل الصباح عندما يخبرنا أن الأماني مهما تأجلت سيأتي الفجر بها تشرق، كانت (Ann Murray) تصدح في أرجاء البيت من مذياع المطبخ، بصوتها المغمس بشقوق الضوء والممتد بكسل أبيض على منحنيات الخشب المشبع بماء المطر: You gave me strength To stand alone again To face the world وقع الأغنية في أذني كالسحر. إحساس غامض وغريب مغلف بالشجن، اكتساني وأنا أتابع الأغنية. قطار القرية الكهل ما زال يمر بمحاذاة «الميسوري»، يطلق صوته الحزين، مُرحّباً بي.. وتلمع عيناه الأماميتان بهجةً وحبوراً. أيها القطار الكهل العجوز، ما أقوى صخبك، وضعف لياقتك، مثلي. لقد اشتقت إليك، ولكل الأيام في (بارك فيل). كان لي شعر أسود، وأحلام بلون الثلج، تغير لون شعري، وظلت أشواقي بيضاء. لقد اشتقت أن أفعل أشياء كثيرة، لم أتمكن من فعلها خلال العامين الماضيين. اشتقت أن أمد يدي لأصافح فجراً مليئاً بعصافير تقتات من كفي، وأن أزرع حديقة منزلي بنفسي، وأن أتسوق في سوق الفلاحين، بقميص القطن الأبيض، وأن أعد إفطار زوجتي، وأن أسافر إلى بحيرة (أوزارك) لأعود في المساء، أجر قاربي من أنفه خلفى، وأن أرمي بجسدي على أقرب كرسي هزاز، وأمارس هواياتي المفضلة، في العبث بمحطات التلفزيون. واستحضار العالم من اليمين لليسار أمامي، أتفرج وأتابع، لأبيع كل ذلك إن أردت في ثانية، بفصل من كتاب. اشتقت أن أمرّغ رأسي في الثلج، وأن أرقص على الجليد بقدم واحدة.. وأن التهم حبات الكستناء من جوف الجمر مباشرة، وأن أجد الوقت الكافي لأراجع مواقفي كل مواقفي. وأرى العالم بدون كوادر أو حواجز. أفتش عن كل ذلك في نفسي بمنتهي الصدق والحيادية، أن أكوّن نفسي..! وأسعى بكل ما في وسعي لتحقيق كل حلم أفلت مني يوماً، فأنا من المؤمنين أنه لا يحق للقلب أن ينزف تساؤلاته أمام محنة صنعها القدر، ولكن عليه أن يبحث عن أشياء ضاعت منه في غفلة. فتمسكوا بأحلامكم، وآمالكم حين تلامس أطراف قلوبكم. اسعوا إلى تحقيقها، وفي أقرب وقت، فهي للأسف كالسكر سريعة الذوبان...!