حين قيل، إن «من الظلام يُولد الفجر المضيء»، تمثل ذلك في مجموعة من المكفوفين، الذين جعلوا من اليد المقيدة تلويحة أمل وطموح توق وسفر إلى المستقبل، هذه المواهب الشابة بفطرة الخالق أثبتت أن «البصر» لا يعيق «البصيرة»، وأن الإبداع ليس حكراً على المبصرين. «جوقة العميان»؛ رفضت أن تكون على هامش المجتمع.. رفضت إلا أن تشارك في بناء الوطن، وكأنهم يقولون: «فقدنا البصر، لكننا لم نفقد القدرة على الإبداع والتميز»، فالإبداع لا تعيقه الحواجز ولا يعترف بالإعاقة. حكايات ممتدة لا تنتهي لمواهب طامحة هزمت الإعاقة البصرية بالعزيمة القوية، فحفروا درباً فسيحاً ودرباً مبحراً بنور «البصرية». تلك الروايات الإبداعية عن المكفوفين حققت جزءا من أحلامهم رغم الصعوبات التي واجهتهم في بدايتهم، وبالإصرار على تحقيق أحلامهم وصلوا إلى أهدافهم وما زالوا مستمرين في تحقيق أقصى درجات النجاح. وما إن تطأ قدماك مسرح برنامج «العصا البيضاء»، إلا ويدهشك جمال تلك الإبداعات الشبابية لمجموعة من «العميان»، تجعلك تستشعر موهبة أولئك وعمق مضمونها، بروح وثابة تسكن أفئدتهم، في ذلك البرنامج الذي نظمه «مداد فن» بجدة، تزامناً مع «اليوم العالمي للكفيف»، برعاية وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ومشاركة جمعية الإرشاد الأسري والنفسي.. فما هي حكايات أصحاب العصا البيضاء (المكفوفين)؟ العلاوي والتعليم والرسم إيمان محمد العلاوي (معلمة ذوي الإعاقة البصرية، ومدربة معتمدة، وتهوى مجال الفن التشكيلي)، عندما فقدت بصرها في سن ال16 عاماً، ابتعدت عن هوايتها في الرسم والتشكيل الفني، ظناً منها أن ذلك يعتمد على البصر فقط. إيمان تحكي قصتها بنفسها قائلة: «كان ذلك مؤلماً، فرغم محاولة الكثيرين إعادتي لممارسة هوايتي إلا أن رفضي وعزوفي عنها كان شديداً، لدرجة أنني تخلصت من كل أعمالي السابقة آنذاك. في يوم ما طلبت مني إحدى الزميلات مشاركتها في معرض تسعى لتنظيمه، رفضت، لكنها سعت جاهدة ولم تيأس حتى قبلت بالمشاركة. بكيت خوفاً وشوقاً لاستعادة هوايتي التي أحب، رغم أنني لم أكن متأكدةً من نجاحي حينها. شاركت بالفعل ب4 لوحات في ذلك المعرض، وكانت البداية التي أدركت بعدها أني أخطأت في الحكم دون محاولة». حين عادت إيمان إلى الرسم، واجهها عائق كيفية تمييز الألوان والتحكم بأبعاد اللوحة، ومع مرور الوقت واستمرارية الممارسة، تمكنت من تكييف أدواتها وإيجاد حلول وبدائل، مثل كتابة أسماء الألوان بطريقة «برايل» على العبوات، وإيجاد سبل لمعرفة المقاييس والمكاييل وغيرها وبأبسط الطرق. حصلت إيمان على عدة شهادات شكر ودروع تذكارية لمشاركتها في معارض وورش فنية، أبرزها شهادة اللجنة العليا لمهرجان «فخر واعتزاز» ورئيسها الأمير بندر بن ناصر بن عبدالعزيز. وتضيف: «أتمنى أن أعكس صورة إيجابية عن ذوي الإعاقة البصرية، وأن أضع بصمتي الخاصة في مجال كنت وما زلت أحبه وسأصل به إلى العالمية». وتقول في رسالة للمكفوفين: «اكتشف ذاتك واختبر قدراتك، هناك جوانب خفية عنك ربما لم تعرفها، لا تستسلم من العقبة الأولى وارسم لنفسك هدفاً تسعى لتحقيقه، طور نفسك وإمكاناتك وتذكر أن الإعاقة طاقة تقبل التحدي ولا تقبل الاستسلام». الشيخي والموسيقى منصور الشيخي (مؤلف وموزع موسيقي)، شاب بدأت رحلته منذ المرحلة الثانوية، حين وجد لديه الرغبة في تخصص الحاسب أو البرمجة، ونفس المعاناة مثل بقية زملائه المكفوفين لم يقبل بالتخصصات العلمية في الجامعة لأنه كفيف، فأجبر على تخصصات لم يكن يرغبها، فالتحق بقسم الشريعة ثم انتقل إلى التاريخ. وبعيداً عن الدراسة وأثناء بحثه في المتاجر الإلكترونية عما يثير فضوله، وجد جهازا مثل البيانو يتم توصيله بالحاسب أو الهاتف، فتعلم العزف وبحث وقرأ وتبحر في هذا المجال، حتى أصبح ملحناً وموزعاً موسيقياً، وهدفه أن يصبح أفضل موزع موسيقي في العالم، وأن ينشئ فنا جديدا لم يُسمع به من قبل، ولذلك فهو يقضي يومياً من 6 9 ساعات لإنجاز أهدافه. وثمة عوائق واجهته في ذلك المجال، أبرزها: عدم توافقية بعض البرمجيات الخاصة بالعزف مع قارئات الشاشة، واعتماد بعض شركات الإنتاج الصوتي في تقنياتها الحديثة على اللمس في منتجاتها وأجهزتها، مما يؤدي إلى صعوبة لدى الكفيف في التعامل مع تلك المنتجات. وفي نصيحة للمكفوفين يقول منصور: «لا تُحْبَطوا من العثرات التي قد تقف في طريقكم، بل ثابروا واستمروا وحاولوا تنمية مهاراتكم وخبراتكم، حتى تصلو إلى أهدافكم في يوم ما». الزامل والعطور سلطان عبدالمحسن الزامل (أول مصمم عطور كفيف)، بدأ رحلته في عالم العطور منذ 4 أعوام، وحوّل هذا الاهتمام من شغف إلى مهنة، باكتساب المهارات وتنمية خبرته بالبحث وحضور الدورات التدريبية المؤهلة لهذه المهنة، مع أنه في بداياته رفض الالتحاق بالتدريب في مجال تصنيع العطور لأنه كفيف. يأمل سلطان أن يصمم لكل إنسان عطره الخاص الذي يميزه عن الآخرين، ويقضي معظم ساعات يومه بين العطور، بحكم أن هذه المهنة في الأصل شغف وهواية، كما يؤكد، موجها حديثه لزملائه المكفوفين: «لا تستسلم للمعوقات أيًا كانت، بل أثبت لنفسك ولمن يستحق نجاحك بأنك قادر على بناء ذاتك مهما كانت الصعوبات». محمد الناشط الاجتماعي محمد سعد (ناشط في حقوق المكفوفين على مواقع التواصل الاجتماعي، ومدرب معتمد، ومهندس صوت)، حين رأى قلة وعي المجتمع بإمكانات المكفوفين وقدراتهم، كان مناضلا بشدة للمطالبة بحقوق المكفوفين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فمن خلال يومياته في المنصات الإلكترونية يحاول توعية المجتمع بأن الكفيف شخص لا يختلف عن غيره من الناس، إضافة لنشاطه في تدريب المكفوفين وصقل مهاراتهم المختلفة. ويرى محمد أن وعي المجتمع محدود بالمكفوفين ونظرتهم لهم من أضيق الزوايا، موضحاً أن هذا يتسبب في ضياع كثير من الفرص التي يستحقها المكفوفون، مضيفاً: يهمني أن أوصل رسائل إيجابية من خلال ما أقدمه لكافة أفراد المجتمع، كما أطمح لتغيير واقع المكفوفين إلى الأفضل. وفي عمله واجه محمد قلة مصادر التعلم في مجال هندسة الصوت، التي تتميز بسهولة الوصول وتتناسب مع المكفوفين، إذ إن أغلب مصادر التعلم المتوفرة تعتمد غالبًا على الصور أو الأسهم الإشارية، ومع ذلك يواصل مسيرته في مجال الهندسة الصوتية ليصل إلى حلمه. وفي رسالته لكل كفيف قال: «عليك أن تؤمن بحلمك، وتسعى جاهدًا لتحقيقه، مهما واجهت من عقبات. لا تستمع للمحبطين، وتجاهل أعداء الإنجاز. ضع خططًا احتياطية لتسعفك حال الفشل، ولا تيأس فالفشل هو طريقك إلى النجاح». ضحى والتدريب ضحى حويمد الشماسي (مدربة معتمدة للحاسب والتقنيات المساعدة للمكفوفين في جمعية إبصار الخيرية بجدة)، بدأت منذ الصغر في استكشاف تقنيات المكفوفين، إذ كانت تحاول الاطلاع على كل جهاز جديد للمكفوفين يصدر في الأسواق حتى وإن لم تمتلكه، وحين تطور هذا الشغف لديها أصبحت تدرب صديقاتها على استخدام التقنيات في حياتهن اليومية. وتقول: «رغم أن التدريب لم يكن هو المجال المأمول، إلا أنني وجدت فيه الوسيلة التي قد توصلني يوماً ما إلى غايتي، وهي إكمال دراساتي العليا في مجال علم النفس». وهناك عوائق واجهت ضحى أثناء عملها اليومي (يستغرق منها من 6 8 ساعات يومياً)، أبرزها كما تقول: «عدم مراعاة المعايير الخاصة بإمكانية الوصول في كثيرٍ من التطبيقات والمواقع. وعلى صعيد التدريب: اتكالية بعض المكفوفين وقلة وعيهم بأهمية التقنيات الحديثة المساعدة، والتي من شأنها تسهيل حياتهم وتذليل كثير من الصعوبات والمشكلات». ثم تقدم نصيحتها لكل مكفوف: «لا تتوقع أن تجد في كل مرة من يذلل أمامك العقبات وييسر لك الطريق لِتَعْبُر، ثق بإمكاناتك ومهاراتك، ولا تبحث عن الدرب الأسهل، بل ابحث عن الدرب الأمثل». وهدفها أن يصبح المكفوفون قادرين على استخدام التكنولوجيا الحديثة بكفاءة، وأن يستفيدوا من الفرص التي ستتاح أمامهم إن هم أتقنوا استخدام تلك التقنيات. الشماسي والتقنية عبدالعزيز حويمد الشماسي (مطور مواقع وتطبيقات)، شاب مولع بالحاسوب وتقنياته منذ الصغر، رأى في البرمجة عالماً مفتوحاً لمساعدة الآخرين وحل مشكلات المكفوفين، ويقضي حالياً جل يومه في البرمجة والعمل على الوصول الشامل للتقنيات في المملكة، كما يقول: «هدف أسعى إليه بكل جهدي». وفي وقت كان عبدالعزيز يحلم بالالتحاق بالجامعة في مجال الحاسب الآلي إلا أن النظام يمنع الكفيف من التخصصات العلمية، فكانت صدمة لم يتخيلها لتحقيق حلمه، فتوجه إلى اللغة الإنجليزية، ويدرس بمجهود ذاتي الحاسب الآلي، فحصل على دورة البرمجة وتطوير التطبيقات من مؤسسة مسك الخيرية، فكانت دافعاً له لمواصلة هدفه نحو التقنية، وكان همه هو بناء مجتمع يرى في التقنية حلولاً مبتكرة للمشكلات الحياتية اليومية، خصوصاً أن التنقية أثرت إيجاباً على حياة المكفوفين بشكل لا يمكن تخيله، ويحلم أن يرى جيلاً من المكفوفين يساهمون في بناء الوطن. ويطالب عبدالعزيز المجتمع بمنح المكفوفين الفرصة وتدريبهم، وإرساء مبدأ تكافؤ الفرص في التعليم والعمل، ومنحهم الحق في اختيار تخصصاتهم الجامعية والوظائف التي يطمحون إليها، اعتماداً على مهاراتهم وخبراتهم المكتسبة.