لن تمر جائحة كورونا مرور الكرام بعد أن أخضعت العالم بأسره أمام جبروتها كُرها لا طواعية، بتطبيق الإجراءات الاحترازية والوقائية، وستحمل في طياتها قصصا تُحكى، وروايات تُروى، ومواقف تُذكر وأحداثا تُسرد. الكثيرون سطروا قصصهم في مجلد «زمن كورونا» الذي لم تنته فصوله حتى الآن، وها أنا أكتب بحبر قلمي على صفحات صحيفتي «عكاظ» التي أنتمي إلى أسرة تحريرها، لأسطر جانبا من قصتي في زمن الجائحة، التي تجاوزت عيش لحظات منع التجول والعمل والتواصل عن بعد، للحظات أصعب وتفاصيل أدق من خلال إصابتي بالفايروس، لأنقل أحداث وقعها بجوانبها الحلوة والمريرة. بكلمات الله واسمه العظيم أُعيذ نفسي وابنتَي وأهلي عند طلوع الفجر وقبل الغروب من كل «مكروه» يصيبنا، وب«الكحول» عقمنا أيدينا، وب«تطبيق الإجراءات» احترزنا، إلا أن مشيئة الرب تجلت في إصابتنا بفايروس «كورونا» المستجد، الذي طالما احترسنا منه بالبقاء في منازلنا قبل صدور قرار منع التجول في شهر رجب الماضي لتمتد فترة المنع من الخروج الذي فرضناه حتى 4 أشهر. لا للخروج.. واللقاءات.. وطلبات الطعام الخارجية، ولم يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، بل حرمت من تقبيل واحتضان ابنتَي وتقبيل رأس والدي رغم إقامتنا تحت سقف واحد، إلا أن خوفي عليهم منعني من ترجمة مشاعري تجاههم، وهذه القوانين كانت مطبقة أيضا عند شقيقاتي اللاتي يقطنّ في مدن أخرى خارج مدينتي جدة، ما بين الدماموالرياض والعاصمة المقدسة، ومع ذلك وقعنا في شباك «كورونا» لنكون ضمن ضحاياه. وفي زمن كورونا.. بدأت أحداث القصة في منزل والدي، التي عاشها 16 فردا لمدة 14 يوما، اختلط فيها اليأس مع الأمل والحزن مع الفرح والخوف مع الطمأنينة تحت سقف الألم. أسرتي قبل الإصابة مع التباعد الجغرافي والاجتماعي الذي فرض عليّ وعلى شقيقاتي الخمس، تعاهدنا على الالتزام بالإجراءات الاحترازية التي فرضنا عليها إجراءات أخرى حتى صُنفنا ممن حولنا تحت مسمى «الموسوسون» حتى يحين موعد اللقاء بالسماح بالتنقل بين المدن، لنجتمع في بيت الأسرة بعد الانقطاع عن العالم الخارجي ونطفئ لهيب الشوق. رُفع قرار منع التجول وتم السماح بالتنقل بين المدن، والعهد الذي قطعناه مستمر، والشوق لرؤية شقيقاتي وأبنائهن وبناتهن تعدى حدود الأرض وصعد إلى السماء، خصوصا «ملائكة الرحمن» الذين حرمتني كورونا من مشاهدة تطوراتهم العمرية حتى بلغوا 7 أشهر من العمر، والشوق لم يكن مقتصرا علي فحسب، بل الجميع نال من ألم الشوق خصوصا أنهم لم يروا والدي منذ أكثر من عام بسبب قضائه فترة من الزمن خارج المملكة وظروف الجائحة. وحان موعد السفر.. فانتقلوا من منازلهم إلى منزلنا في جدة بمركباتهم الخاصة دون مخالطتهم لأحد، فوصلت شقيقتي (هند) مع أبنائها في اليوم الأول، لتتبعها شقيقتي (رؤى) من مكةالمكرمة و(نداء) من الرياض في اليوم الثالث، وشقيقتي (هبة) من (الدمام) في اليوم الرابع، وكان غسل اليدين وتعقيمهما وارتداء الكمامات شرطا قبل العناق الذي لم يدم أكثر من 15 ثانية، ولم نتأثر من الشوق الذي سكن قلوبنا لأشهر طويلة. التزمنا بالتعليمات من حيث التعقيم والتباعد في المجلس الواحد بمسافة متر، مع توزيع المعقمات والكمامات على أطراف المجلس، والأكل والشرب في أوان بلاستيكية، وتقسيم غرف النوم بيننا حيث لا تضم كل غرفة أكثر من 3 أشخاص فقط مع تحقيق التباعد، ومضينا على هذا الحال 4 أيام، حتى حلّ الفايروس ضيفا بيننا. «النافذة».. لقاء المحبين لم يكن في الحسبان أن «النافذة» ستكون وسيلة التواصل مع المحبوب، فمن خلالها كنا على موعد يومي مع والدي العزيز الذي لم نشاهده خلال فترة العزل، فكان ينزل إلى فناء المنزل لنشاهده ونتحدث إليه عبر النافذة ليطمئن على مستجداتنا الصحية. التواصل والاطمئنان مع والدي مستمران أيضا عبر الهاتف، حيث كان القلق يسيطر علينا خوفا عليه من الإصابة لكبر سنه، وفي الوقت الذي كان يثبت لنا أنه يتمتع بصحة وعافية، وبأمر «مشاعر الأبوة» أخفى علينا إصابته بالفايروس وأنه تعرض لارتفاع شديد في درجة الحرارة واستمر الأمر ليوم كامل مصحوب بالأعراض الأخرى، وأصر على كتمان ذلك بالتعاون مع زوجته التي أخفت علينا الأمر حتى لا نشعر بالخوف. «المضحك».. «المبكي» النعم لا ندرك قيمتها إلا مع «الفقد».. و«الشم» و«التذوق» نعمتان لا متعة للحياة بدونهما، وفقدهما كان حتميا مع إصابتي وأفراد أسرتي ب«كورونا». ومن المواقف التي لا يمكن نسيانها، تفاجأت في يوم من الأيام أن ثلاجة المجمدات «الفريزر» قد احترقت وتفحمت من الداخل دون أن نشتم رائحة الحريق بسب فقدان الجميع حالة الشم، وعلى قول المثل الشهير «همّ يبكي وهمّ يضحك»، فلا أعلم متى وكيف حدث الأمر، كل ما علمته أننا نجونا بعناية الله ولطفه. أما «المضحك» في الأمر أنني بدأت أشتم رائحة الحريق المخزون في «الفريزر» بعد استعادتي للحاسة تدريجيا. لكل منهن «قصة».. «رؤى» وتأنيب الضمير رغم حملها ومرضها ب«الربو» إلا أن الخوف الذي تملك شقيقتي (رؤى) كان منصبا علينا جميعا، كونها «ناقلة المرض» للأسرة، ولكن ليس «باليد حيلة» سوى اللجوء إلى الله بأداء صلاة الحاجة بعد الفريضة وترديد «ربي مسني الضر وأنت أرحم الراحمين»، والبكاء خفية حتى لا تظهر دمعتها أمام أحد. كانت تنظر إلى الصغار بنظرة ألم ولسان حالها يقول: «يا رب ما تسيئنا فيهم ولا نفقد أحدا منهم.. لأنه لو صار لأحد منهم شيء بموت 3 مرات.. مرة عليه ومرة على أمه ومرة من تأنيب الضمير لأني أنا السبب»، وعند النوم كانت تتفقدنا جميعا كل ساعة من الزمن، وكلما اشتكى أحد من ألم ووجع تتألم رغم تألمها من الوجع ذاته. «هند» وتوأمها.. لم تهتم بكونها مصابة، كان خوفها منصبا على رضيعيها التوأم اللذين رزقت بهما قبل 7 أشهر بعد حرمان من الإنجاب دام 9 سنوات، خصوصا أنها عانت من بُعدهما خلال فترة إقامتهما في الحضانة كونهما خدجا، وعلى طفلها الأكبر ذي ال11 عاما المصاب بمرض الربو، خصوصا عندما قلت شهية الرضيعين كأحد أعراض الإصابة بكورونا. فزع «آخر العنقود» أما (نداء) شقيقتي الصغرى أو كما تسمى بالعامية «آخر العنقود»، و«ابنتي» التي لم ألدها، فدموعها لا تكاد تجف من البكاء على رضيعتها الخديجة «أول فرحتها» (فاتن) -على اسم والدتي رحمها الله- التي عانت معها لحظات صعبة منذ خروجها إلى الدنيا وهي لم تكمل في أحشائها 7 أشهر، وحرمت منها لشهرين متتاليين وهي في حاضنة الأطفال تحت عناية الرحمن، حتى قرت عينها وأعيننا بخروجها من المستشفى. رحمة الله كانت ألطف منها، إذ تخطت (فاتن) أزمة المرض ولله الحمد بعارض بسيط وهو فقدان الشهية، وكان الأطباء يؤكدون لها أن الرضع أعراضهم خفيفة وتزول سريعا في حال إصابتهم بالفايروس. قرتا عيني وتوترهما من الإصابة من الصعب الشعور بالضعف والتظاهر بالقوة أمام ابنتي وقرة عيني، فكنت أدعو الله ليلا ونهارا أن لا يريني فيهما مكروها وأن يحفظني لهما حتى أشد عضدي بهما، تفطر قلبي على ألم الصغرى التي كانت لا تستطيع أن تنهض من فراشها من شدة الألم، وتوتر الكبرى وقلقها وعدم قناعتها بأنها مصابة. كورونا.. الضيف الثقيل في بيتنا استيقظت في اليوم الرابع من وصول شقيقاتي على صوت شقيقتي (هبة) وهي تقول لي: «زوج رؤى مصاب بكورونا»، إذ كان حاملا للفايروس قبل أن تطأ قدما (رؤى) منزلنا، رغم أن الأعراض التي كان يشعر بها صداع خفيف ورشح، وبما أن الرشح ليس مدرجا من أعراض الفايروس ذلك الوقت، فكان من المستبعد إصابته، خصوصا أنه كان حريصا على الالتزام بالإجراءات الاحترازية خوفا على شقيقتي كونها حاملا ومصابة بمرض الربو. قفزت من السرير ولسان حالي يقول «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وقلبي يتألم على شقيقتي خوفا عليها كونها من الفئات الأكثر خطورة بسبب مرضها الصدري وطفلها الذي تحمله في أحشائها، وخوفي على الرضّع المصنفين بالخدج ويتعاملون معاملة خاصة، وأسمع حينها صوت بكاء شقيقاتي الصغيرات في نظري على صغارهن الذين لم تتجاوز أعمارهم 7 أشهر، وقلق ابنتَي، ونظرات الرعب في أعين الأطفال. ارتباك وتوتر وبكاء وخوف طال جميع أفراد الأسرة، وأول إجراء قمت به طلب عزل والدي بحكم كبر سنه، ونقل شقيقتي رؤى إلى المركز الصحي لإجراء فحص كورونا الذي أحالنا إلى مركز «تطمن» لعدم وجود موعد مسبق، وأحالنا الأخير إلى مجمع الملك عبدالله الطبي لعدم ارتفاع درجة حرارتها رغم شعورها منذ يومين برشح وصداع خفيف، وألم تخلل جسدها قبل سماعها خبر إصابة زوجها. وصلت إلى المنزل وهدفي الوحيد كيف أسيطر على الوضع الجديد، وأمتص الخوف من أفراد الأسرة الذين ظهرت عليهم الأعراض قبل سماعنا الخبر ب24 ساعة، فحاولت أنا وشقيقتي (هبة) كوننا الأكبر سناً جاهدتين تهدئة الأمر وبث التفاؤل، وقراءة الأخبار المطمئنة، ولم أكن أعلم أن الأيام القادمة ستحمل في جعبتها الكثير من أعراض الفايروس. «اليأس» يتسلل.. في اليوم الرابع من الإصابة وصلتني رسالة على هاتفي من وزارة الصحة تفيد بإصابتي بفايروس كورونا، وكان اليأس قد بدأ يتسلل إلى روحي مع توغل المرض في جسدي، ليس خوفا من تأكيد الإصابة بل لأني استنفدت طاقتي في بث الطمأنينة في أرجاء المنزل، وتمكن الفايروس من جسدي الذي أصبحت غير قادرة على تحمله، حتى حل اليوم الخامس وأيقنت أن الموت قريب لا محالة. استيقظت في اليوم الخامس رغم عدم تمكني من النوم بالشكل الصحيح بسبب آلام مفاصل الجسد والصداع المستمر في الرأس، ووخزات العين، وألم الصدر الشديد المصحوب بالكتمة والسعال، وانسداد الأنف مع عدم القدرة على التنفس، وأنا أشعر بتنميل في يدي اليسرى وعدم القدرة على تحريك أصابعها بشكل طبيعي، فانتابني الخوف من الموت وأوصيت أختي برعاية ابنتي (لينا وليان) اللتين لا أملك في الدنيا سواهما، بعد أن أرحل عن الدنيا، وبعدها شعرت بتنميل كامل في جسدي وكأن طبيبا قام بتخديري، ولم أعد قادرة على تحريك أطراف جسدي أو التنفس أو الكلام. اتصلت إحدى شقيقاتي على الهلال الأحمر، إلا أن الوضع لم يكن يحتمل الانتظار مع تأخر مركبة الإسعاف، لتنقلني إلى المستشفى، وعند وصولي تم فحص العلامات الحيوية التي كانت مطمئنة، وأكدت لي الطبيبة المشرفة على حالتي أن العارض قد يكون من أعراض المرض وأوصتني ببعض التوصيات الطبية. نصيحة طبيب.. هناك أشخاص يفتحون لنا نوافذ الأمل بمفتاح النصيحة فيدخل نور الأمل من جديد في حياتنا. الطبيب الاستشاري نزار باهبري الذي فزع الكثيرون من إصابته بفايروس كورونا أخيرا، أسأل الله له السلامة وأن يلبسه ثوب الصحة والعافية، نصحني بعد أن شكوت له حالتي الصحية بأن أبحث عن أسباب الأعراض كون أن الفايروس قد ضعف والأعراض الموجودة حاليا ناتجة عن مشكلة صحية أخرى. وبالفعل اتجهت إلى أحد المستشفيات الخاصة وقمت بإجراء فحوصات شاملة وكانت النتيجة التهابا حادا في الجيوب الأنفية قبل إصابتي بالمرض، وتأثرت بعد الإصابة ما أدى إلى انسداد في الأنف وتكوّن ماء خلف طبلة الأذن، واستمررت على نظام علاجي حتى اختفت الأعراض وتماثلت للشفاء. عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم علمتني «كورونا» أن في التجارب «عبر» وفي معايشة تفاصيلها «دروس»، ولتخطي مساوئها علي التحلي ب«الإيمان» و«القوة» و«الصبر»، وأن الخوف أو اليأس إذا تسلل أي منهما للنفس يدمرها، وأثبتت لي التجربة أن الأمثال الشعبية رغم بساطة مفرداتها إلا أنها تملك من الصحة لدرجة الإيمان بها ف«اللي يخاف من العفريت يطلع له» وخوفنا من «كورونا» جعله يتربع في منزلنا. حرصنا الشديد لم يقف أمام أقدار الله ومشيئته، وكلمة «يا ليت» التي ترددت كثيرا خلال إصابتنا بالفايروس ندما على التجمع العائلي، جعلتنا نجهل الجانب الإيجابي منه، وهو أن تجمعنا جعلنا نُعين بعضنا ونتساند خلال محنتنا خصوصا أن هناك أطفالا يحتاجون إلى الرعاية والاهتمام. «رعب» علاج الملاريا انقضت مدة المرض 14 يوما، وامتد الأمر إلى اليوم ال21 ولا تزال الأعراض مستمرة، فتسلل «الملل» و«الخوف» بداخلي، خصوصا أن من حولي تماثل للشفاء من اليوم السابع والسادس والعاشر، ليثيرني سؤال: «هل ستعود صحتي كما كانت، هل ستعود حياتي طبيعية كالسابق، هل للمرض آثار جانبية»؟! اضطررت للذهاب إلى المستشفى بعد التواصل مع وزارة الصحة هاتفيا، وقرر الطبيب الاستشاري أن أستخدم علاج الملاريا كون الأعراض مستمرة، وإجراء فحص كورونا. كان وقع كلمة «ملاريا» على مسامعي ثقيلا، فرغم ثقافة الشخص ووعيه إلا أنه عند المرض يخاف من وقوع المكروه، وهذا ما شعرت به حينها، إذ تضاعف القلق وأصبح الخوف من آثار العلاج الجانبية أسوأ من المرض ذاته، وبالفعل استخدمت العلاج لمدة 3 أيام رغم أن فترة العلاج المقررة أكثر من ذلك لأني لم أتحمل أعراضه الجانبية من تسارع دقات القلب وضيق التنفس ونوبات البكاء وتقلب المزاج، في الوقت الذي ظهرت نتيجة الفحص بكورونا بالسلبية.