تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي بين حين وآخر انتقادات لمجلس الشورى تصل حد الإساءة لهذه المؤسسة التشريعية ولأعضائها. وفي الغالب تأتي هذه الانتقادات تعليقاً على تصريح أو مداخلة لأحد أعضاء المجلس. وتظهر هذه الانتقادات سوء فهم في اختصاصات مجلس الشورى والنظر إليه كجهة تنفيذية معنية باتخاذ سياسة أو إجراء تدبير له أثر مباشر على حياة الناس. ومن بديهيات القول أن السلطة تنقسم إلى ثلاثة فروع هي السلطة التشريعية ويتشارك فيها مجلس الشورى ومجلس الوزراء، والسلطة التنفيذية وتتمثل في الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية، والسلطة القضائية بفرعيها القضاء العام وديوان المظالم. وتتمثل اختصاصات مجلس الشورى في ثلاثة مجالات هي: التشريع والمراقبة والعمل الدبلوماسي المعزز لجهود وزارة الخارجية في الدفاع عن مصالح المملكة. ويعد سن الأنظمة وتعديل القائم منها الدور الأهم والأبرز لمجلس الشورى. ويقوم المجلس بدوره التشريعي من خلال مراجعة ما يصدر من الحكومة من تعديلات على أنظمة قائمة أو مشاريع أنظمة جديدة، أو من خلال مبادرة أعضاء المجلس باقتراح تعديل على نظام قائم أو سن نظام جديد. وسن الأنظمة (القوانين) يعد الدور الأهم لأي سلطة تشريعية كونه يضع الإطار العام للممارسات والسلوكيات اليومية سواء من الأفراد أو المؤسسات (على سبيل المثال، نظام المرور، نظام مكافحة التستر، نظام الضمان الاجتماعي، نظام مكافحة التحرش). ومن خصائص الأنظمة ثباتها لدرجة تكسبها درجة من «القدسية»؛ فلا تتغير إلا بعد مرور فترات طويلة وتأكُد الحاجة للتغيير، كونها تمثل الإطار العام الضابط لكل ما يدور في المجتمع. ولذلك تجدها محل شد وجذب بين السلطة التشريعية والحكومة في جميع الدول. فمن جانب تحاول الحكومات صياغة الأنظمة بطريقة تيسِر لها العمل وتقلل من الدور الرقابي عليها، في حين تسعى المجالس التشريعية إلى التشدُد عند سن الأنظمة لضمان ضبط ممارسات الأجهزة الحكومية وعدم تعديها على مصالح المواطنين. ومجلس الشورى لا يختلف عن المجالس التشريعية في العالم في هذه المعادلة ولذلك يتكرر حدوث التباينات بين الحكومة والمجلس حول مشاريع الأنظمة ويسعى الطرفان إلى التوافق أو الاحتكام في النهاية لرأي الملك الذي يفصل بين السلطتين حسب المادة السابعة عشرة من نظام المجلس. المشكلة هي أن هذا الدور المهم والاساسي للمجلس لا يحظى بأي اهتمام من الرأي العام في معظم الدول بسبب أن تأثيره على حياة الناس غير مباشر، لذلك نجد أن هذه الوظيفة الأساسية لمجلس الشورى غائبة تماماً، وأجزم أن لو علم الرأي العام عن جهود المجلس في تعديل الأنظمة وتجويدها لحفظ مصالح الناس -بالتعاون مع الحكومة بالطبع- لتغيرت الصورة الذهنية المرسومة عنه. الوظيفة الثانية للمجلس هي مراقبة أداء الأجهزة الحكومية من خلال دراسة تقاريرها السنوية التي تبيِن إنجازاتها وما تواجهه من عوائق ومن ثم إقرار التوصيات لتحسين الأداء. وعند مناقشة هذه التقارير تحت قبة المجلس يتناوب أعضاء المجلس على تقديم النقد البناء والقوي والصريح للأجهزة الحكومية وبيان أوجه تقصيرها وتقديم المقترحات لتحسين أدائها. وأجزم أنه لو أتيح للرأي العام سماع تعليقات الأعضاء لتغيرت الصورة الذهنية التي يحملها عن المجلس. وتنتهي هذه المناقشات إلى توصيات ترفع كقرارات للملك الذي يوجه -حفظه الله- الجهات الحكومية المعنية بتبنيها بعد التأكد من عدم تحققها، وليس من الصعب إثبات أن كثيراً من الإصلاح والتطوير في أداء هذه الجهات جاء نتيجة لتلك التوصيات. ولعل المجلس ينظر مستقبلاً في رفع ملخص بمداخلات الأعضاء وعدم الاكتفاء برفع التوصيات وذلك من أجل أن يستفيد منها مجلس الوزراء وكذلك مجلسا الشؤون الاقتصادية والتنمية، والشؤون السياسية والأمنية في تقويم أداء الجهات وتطوير السياسات؛ فكثير من هذه المداخلات ينم عن معرفة عميقة وخبرة طويلة ومرئيات ثاقبة.. الوظيفة الثالثة للمجلس تتمثل في دعم الدبلوماسية الرسمية والدفاع عن مصالح المملكة من خلال الزيارات واللقاءات مع أعضاء المجالس والبرلمانات وبيان مواقف المملكة تجاه مختلف القضايا ومنح هذه المواقف بعداً شعبياً يؤكد أن السياسة الخارجية السعودية تستند إلى قاعدة شعبية قوية يعبر عنها أعضاء المجلس بصوت واثق وواعِ. من هنا يتبين عدم معرفة الرأي العام بالكثير مما يقوم به المجلس بأدواره الثلاثة (التشريعية والرقابية والدبلوماسية) وهذا هو السبب الأول في إشكالية الصورة الذهنية عنه، ومعالجة هذا الأمر سهلة وذلك من خلال تكثيف تواصل المجلس وتوسيع انفتاحه على الرأي العام. السبب الثاني في إشكالية الصورة الذهنية عن المجلس هو ما يصدر عن بعض أعضاء المجلس من تصريحات وتعليقات على قضايا عامة تكون مادة للتعليق والإسقاط على المجلس ككل. وهنا لابد من بيان مسألتين: (أولاً) أن العضو حينما يعلق على قضية عامة فهو يمارس حقه كمواطن فيعبر عن قناعاته التي قد لا تكون مقبولة من كثير من الناس وهذا أمر طبيعي فأفراد المجتمع -ومنهم أعضاء المجلس- ليسوا سواء، ولذلك ستتباين مواقفهم وتختلف آراؤهم تجاه القضايا العامة وهذا وضع طبيعي جداً وتعيشه كافة المجتمعات. لذلك من الخطأ أن نعتقد أن هذا التباين في الرأي سيختفي حال التعيين في المجلس وأن نتوقع أن هناك موقفاً واحداً تجاه كافة القضايا العامة يجب أن يعبر عنه العضو وأن عدم التزام العضو بهذا الموقف أياً كان يعني أنه لا يمثل المجتمع ولا يهتم بمصالح أفراده. (ثانياً) إن ما ينشر من آراء تبدو مثيرة لبعض أعضاء المجلس يؤخذ خارج سياق الحديث وبشكل متجزأ ويقدم للجمهور وفق مقتضيات الإثارة والإنتشار، لذلك تكون محل استنكار وهذا أمر متوقع، لذلك لابد من الحكم على التصريحات والتعليقات في سياقها الصحيح، والأهم أن تنسب لصاحبها ولا تستخدم لرسم صورة غير حقيقية عن المجلس ككل. من الأسباب الأخرى التي تسهم في تشكيل الصورة عن المجلس وتثير الرأي العام ضده ما ينشر من بعض أعضائه عن سقوط توصية في المجلس يرى العضو/العضوة أهميتها والإيحاء بأن عدم موافقة المجلس على التوصية يدل على «تخلف» المجلس عن مسيرة التطور التي تعيشها المملكة تحت رؤية 2030. ومع تقديري للزملاء والزميلات الذين ينشرون نتائج التصويت على توصيات «مثيرة»، فإن الموضوعية تقتضي بيان أن التصويت عملية أكثر تعقيداً وليس كما يراد أن يبدو وكأنه رفض لمضمون التوصية. فالعضو يصوت بناء على عدة اعتبارات هي (أ) مضمون التوصية (ب) أسباب رفض اللجنة المعنية للتوصية، (ج) هل التوصية متحققة ولا حاجة لها و(د) ما إذا كانت التوصية مناسبة للجهة الحكومية التي يكون تقريرها محل المناقشة. وفي بعض الأحيان هناك عوامل أخرى تؤثر على التصويت تتعلق بطريقة وتوقيت تقديمها. المشكلة أن هذه العوامل المختلفة المؤثرة في التصويت لا تظهر للرأي العام الذي لا ينقل له إلا مضمون التوصية ما يجعله يعتقد أن سقوطها في التصويت سببه موقف مبدئ وهذا أمر غير صحيح وسجلات التصويت في المجلس تؤكد ذلك حيث تظهر أن السلوك التصويتي للأعضاء أكثر تعقيداً من اختصاره في موقف فكري أو رؤية اجتماعية محددة كما يعتقد البعض. وبلاشك أن المواقف الفكرية والرؤى الاجتماعية موجودة تحت قبة المجلس وهي انعكاس دقيق لما هو موجود في المجتمع السعودي من مواقف ورؤى؛ فالأعضاء المئة والخمسون هم في النهاية يأتون من كافة شرائح المجتمع وقناعاتهم ليست بعيدة عن توجهات وقناعات هذه الشرائح. بعض التعليقات على المجلس في وسائل التواصل الاجتماعي تتجاوز النقد والتقييم إلى الإساءة والتجريح والإساءة المتعمدة للمجلس مؤسسة وأعضاء، وقد اقترح بعض الأعضاء على رئاسة المجلس ضرورة التحرك لاتخاذ ما يلزم من إجراء نظامي تجاه من تصدر عنه هذه الإساءات، إلا أن ما لاحظته أن معالي رئيس المجلس وقيادة المجلس يرون عدم الانشغال بهذه الإساءات وترك أمرها للجهات المختصة، والمراهنة على وعي المواطن الذي يدرك أهمية المجلس وما يقوم به من وظائف في غاية الأهمية؛ خاصة في هذه المرحلة التي تعيش فيها المملكة تحولات إدارية كبرى تتسم بالسرعة والتتابع في القرارات والسياسات والبرامج الحكومية ما يقتضي الفحص والتقويم من جهة مستقلة وهو ما يحققه المجلس بما يمتلك من كفاءات متنوعة تجمع بين الخبرات الإدارية المتراكمة والمعرفة العلمية المتخصصة لمئة وخمسين عضواً يأتون من مختلف مناطق المملكة ويمثلون مختلف شرائح مجتمعها. ونختم بالقول نعم للنقد مهما كان قاسياً، ولا للتجريح والإساءة.