قبل أيام وقعتُ على كتاب بعنوان «علي بن إبراهيم النعيمي من البادية إلى عالم النفط»، فقلت في نفسي؛ لقد عرفت هذا الرجل منذ زمن، فما الداعي لأبذّر وقتي في قراءة ما لا أستسيغه من هذا النوع الأدبي الذي غالباً ما يكون سرداً متخماً بالفخر ومشبعاً بالنرجسية. لكنما فضولي وشغفي بالقراءة أبيا علي إلا أن أتصفح هذا الكتاب، وما بدأت بتقليب أوراقه حتى طالعتني ثماني صفحات مصقولة تضم صوراً لصاحب هذه السيرة الذاتية، تبدو وكأنها تلخص مراحل حياته؛ مما شجعني لقراءة المقدمة والخاتمة، ومن ثم وجدتني ألتهم الصفحات لأغرق في قراءة سيرة أخرى عن تاريخ وطن ينهض بهمة ملوكه وأمرائه ورجاله وشبابه؛ ليفتحوا بذلك صفحة جديدة ناصعةً لتاريخ بلادهم، ويحفروا بَصْمَات ساطعةً في تاريخ العالم، ناشرين علم وطنهم خفاقاً فوق المحيطات، وفي كل أرجاء الدنيا، كما وجدتني أتوغل في مسيرة شركة بدأت صغيرة مملوكة لثلاث شركات أجنبية، لتصل إلى ما هي عليه الآن -شركة سعودية وطنية عملاقة- بل أكبر شركة متداولة بالعالم بعزم ذلك الجيل من الرّواد الذين تسلحوا بالعلم والصبر والإخلاص، إنهم كوكبةٌ من الرجال السعوديين الأفذاذ، ممن بذلوا جهوداً جبارة ساهمت بنجاح هذه الشركة وتقدمها وكذلك تقدم وطنهم وازدهاره؛ ليضعوهُ أخيراً ضمن العشرين دولة الأكثر ازدهاراً وتأثيراً في اقتصاد العالم وسياساته، مدعومين في كل ذلك بثقة وتشجيع ملوكهم وأمرائهم. أما بالنسبة لعلي النعيمي ذلك الرجل الذي عرفناه في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وما تلاها من الألفية الثانية - من خلال المؤتمرات الصحفية التي كانت تعقدها منظمة (أوبك)، كلما جد جديد في سوق النفط العالمي، إذ كانت واضحة أهمية هذا الرجل كمدير لأكبر شركة نفط عالمية (أرامكو)، وفيما بعد كوزير للبترول والثروة المعدنية لأكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط في العالم. كما أنني ما زلت أذكره يغوص خلف غابة من الكاميرات والميكروفونات والصحفيين، يحاول كل منهم أن ينتزع السبق الصحفي الذي ينتظره زعماء العالم ورجال أعماله؛ ليهدئ من روعهم، أو ربما يعصف بأحلامهم، وما زلت أذكره رابط الجأش هادئا مبتسماً، يقول كلمته بكل وضوح ويمشي، وكدبلوماسي بارع كان يترك الباب موارباً أحياناً؛ ليفهمه كل حسب هواه، أو حسب مصلحته، وفي كل الحالات كان يوجه بوصلته نحو وطنه أولاً، ومن ثم يراعي المصلحة العامة لدول وشعوب العالم. هذا هو علي النعيمي الذي عرفناه من خلال الشاشات، أما علي النعيمي الذي تعرفت إليه في هذا الكتاب فهو ذلك الطفل الأمي الذي ولد في صحراء الربع الخالي، وعلى الرمال الحارقة كان يمشي حافياً يرعى الغنم مع أخيه، والذي كان يقطع سحابة يومه يصطاد السحالي ليأكلها بعد أن يشويها على النار - ذلك الطفل هو نفسه الذي دفعته ظروفه الأسرية القاسية إلى العمل كساعي بريد في شركة (أرامكو) في بداية تأسيسها ولم يتجاوز آنذاك الثامنة من العمر، ولقد شاء له الله أن ينمو مع هذه الشركة ليصبح بعدما يقارب الخمسين عاماً مديرها التنفيذي عن جدارة واقتدار. إنه واحدٌ من أولئك الرجال الذين ساهموا بتطوير (أرامكو)، بل ربما كان أبرزهم؛ لما اجتمعت فيه العديد من الصفات الإنسانية والمهارات القيادية، والتي صقلها العلم، وعجنتها التجربة وأنضجتها الخبرة، والتي استثمرها في مفاوضات شاقة طويلة امتد بعضها إلى (15) عاماً، كان أولها مع الشركات الثلاث المالكة ل(أرامكو)، وفيما بعد مع الشركات الأخرى في آسيا وأوروبا وروسيا الطامعة في الاستثمار والحصول على أكبر حصة ممكنة من كعكة النفط السعودي. أما عن تلك الصفات العديدة والمركبة التي امتاز بها هذا الرجل، فقد كفاني الحديث عنها شهادات الذين عرفوه أو زاملوه في العمل أو على مقاعد الدراسة أو الأساتذة الذين تتلمذ على أيديهم داخل الوطن أو خارجياً في أكثر من جامعة عربية أو أمريكية، وشهاداتهم موثقة في هذا الكتاب. وأخيراً رب سائل يقول: هل هذا كل ما في الكتاب؟ أقول: قطعاً لا؛ لأن ما في الكتاب من تفاصيل كثيرة اختلط فيها الذاتي بالموضوعي، والخاص بالعام، والسياسي بالاقتصادي، والاجتماعي بالإنساني - كتاب بهذا العمق لا يمكن أن يتسع له مقال، إنه سجلٌ مترعٌ بكفاح شاب فقير ألمعي طموح، جلد ومتواضع ومخلص لأهله ورفاقه ووطنه. إنه شخص اجتماعي محب للناس يتقبلهم كما هم، ويحسن التواصل معهم ليصبح بعضهم فيما بعد من أعز أصدقائه. ومهما قيل أو كتب عن هذا الكتاب يبقى جديراً بالقراءة مرة تلو مرة، ويبقى صاحبُه جديراً بالاحترام والتقدير. إنه مثالٌ يحتذى وقدوة صالحة لكل شاب سعودي طموح، بل لكل من يبحث عن فرصة للإبداع والتفوق.