في فبراير 2020، ذهبت في رحلة استثنائية في بحر من نوع آخر بالنسبة لعالم بحار - بحر الرمال. عبرت نحو 600 كم من الربع الخالي الشاسع، أضخم صحراء رملية في العالم لإجراء أبحاث عن النفايات البلاستيكية التي تنتقل جواً إلى هذه البقعة المعزولة. واكتشفت خلال رحلتي هذه ثقافة البدو، وخرجت بأفكار مهمة ساعدتني على تكوين فهم أعمق عن الشعاب المرجانية في البحر الأحمر. كانت رحلتنا بقيادة ثلاثة أفراد من عائلة المهرة، وهي قبيلة بدوية في المنطقة، يمتاز أبناؤها بمهارة تتبع الأثر في الصحراء. بالفعل، فقد ذُهلت بمهارات الملاحة لديهم وفهمهم لأنظمة الكثبان والحياة الصحراوية، وهي خلاصة ثقافة تطورت عبر آلاف الأجيال. وتكشفت فصول تاريخ هذه الثقافة في القصص والأغاني، التي أنصتنا إليها ونحن نحتسي الشاي والقهوة حول نار المخيم، تحت سماء سطع بريق نجومها وسط صفائها، لم أر مثلها في حياتي. كنت خلال الرحلة أقرأ كتاب «الرمال العربية»، للمستكشف البريطاني ويلفريد ثيسيغر، الذي قطع الربع الخالي في العقد الخامس من القرن العشرين مع مرافقيه من البدو. ويثمن ثيسيغر في كتابه، طبيعة البدو القاسية وقدرتهم على التكيف، التي فرضتها ظروف الصحراء القاسية، والتي تتسم بالحرارة المرتفعة وندرة الطعام والمياه والعزلة، ما يجعل كل خطوة قراراً مصيرياً. ظروف المعيشة القاسية تفضي إلى القدرة على التكيف. أحد الدروس التي حملتها معي من رحلتي في الصحراء إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، حيث استأنفت أبحاثي عن الأنظمة البيئية البحرية للبحر الأحمر الذي تمتاز شعابه المرجانية، والتي تعد أفضل الشعاب الباقية في محيطات العالم، بقدرة ملحوظة على التكيف من خلال مقاومتها لظاهرة ابيضاض الشعاب المرجانية العالمية، التي أهلكت الشعاب المرجانية في المناطق المدارية حتى جنوبالبحر الأحمر، ما بين عامي 2015 و2017. وابيضاض الشعاب المرجانية حالة ناجمة عن الحرارة الشديدة، تفقد خلالها الشعاب الطحالب المعايشة، التي تزودها بالغذاء لتواجه خطر الموت المحدق. ويجري الإبلاغ عن حدوث ابيضاض آخر للشعاب المرجانية في المحيط الهادئ وأنا أكتب هذه السطور. يعتبر شمال البحر الأحمر بيئة بحرية قاسية ذات درجة حرارة مرتفعة جداً، وإسقاطا شمسيا في الصيف وملوحة مرتفعة جداً، مقارنة بمياه البحر المعيارية بسبب التبخر المرتفع، ونقص مدخلات المياه العذبة لعدم وجود أنهر وضعف هطول المطر. ونتيجة لهذه الظروف، يعتبر شمال البحر الأحمر، «الصحراء الأقسى» في عالم المحيطات لأنه شديد الفقر بالمغذيات وغير مثمر.لقد فرضت هذه الظروف القاسية على الشعاب المرجانية قدرة ملحوظة على التكيف، التي تمتاز بها حاليا الشعاب المرجانية في البحر الأحمر، ما يجعلني أطلق عليها لقب «بدو بحر الصحراء». في كاوست، أعمل وزملائي على الكشف عن الآليات الجينومية المتعلقة بعلم وظائف الشعاب المرجانية، التي تسهم في زيادة قدرتها الملحوظة على التكيف. ونأمل أن يساعد هذا الفهم الجديد، على وضع إستراتيجية لزيادة مقاومة الشعاب المرجانية المهدد في مناطق أخرى بقدرة مماثلة، وضمان مستقبل مشرق للشعاب المرجانية عالمياً. * أستاذ كرسي طارق أحمد الجفالي لأبحاث علوم أحياء البحر الأحمر في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست). لديه أبحاث كثيرة عن النظم البيئية البحرية ووضع إستراتيجية لإعادة بناء الحياة البحرية بحلول [email protected]