أحياناً تهوى أن تكون نجارا في قرية صغيرة مبعدة، بيتك هو ورشتك، وحطب الغابة عكازك ومسندك، تستطيب رائحة ولون الخشب المبتل، هناك أماكن لها نفس الرائحة واللون، منزلي في (درة العروس) أحدها، أهرب إليه عندما أشعر أن هذه الشقة لم تعد مكاني، أذهب تجاه أمواج متحركة، أوحد ربي مع النجوم والنوارس في الفضاء، صحوت اليوم مهتزاً برأس مثقل بكل شيء، وبلا شيء لا ليل قمر في الشرفة يغسلني، ولا صبحي مطر يطربني، كأن أقفال الدنيا مجتمعة حول رقبتي، لم كل هذا التبعثر؟ لم كل هذا الشتات؟ لم كل هذا التذبذب؟ لا شك أنه رهاب الاحتجاز لا أكثر!! أحسست أنني «عشت مائة عام في العزلة» هي عبارة ماركيز، لكنها تناسبني فعلا اليوم، أعددت نفسي في اليوم التالي، وانطلقت بصحبة أم فراس، وبعض المساعدين، كالفراشة التي تحب مروج الفجر المرسومة على جانبي الطريق، ما إن وصلنا المنزل، حتى تفحصت مكتبتي، أخذت أكتشف المكان من جديد، كانت الأشجار الخضراء الطويلة في الحديقة تطل بخفر على مياه البحر، والعشب في الأرض يلامس الرمل الأصفر الناعم، في نقش بديع، كتطريز حرير أرمني، نفحات هوائية لطيفة، والروائح العبقة تأتي من الأشجار الكثيفة المزهرة، عشت يوماً سعيداً أيما سعادة، أنصت إلى البحر حيث الموجة تلو الأخرى، لا أعلم كم من الوقت مضى علي وأنا على حالي تلك، حتى أدركني المساء، وغشي المكان الظلام، تناولت عشاء خفيفا مع زوجتي، وذهبنا للنوم، كانت المنطقة بكاملها تغط في صمت عميق، لا صوت يعلو على صوت الموج الخجول، قبل منتصف الليل بقليل اجتاح الفضاء الفسيح مجلجلا، صوت موسيقى زاعقة، كأن قاعة (ديسكو) انتقلت إلى حجرة نومي، كان المكان يهتز، والبحر والشجر، صوت كلبي يشق صمت الليل خوفا، أضأتُ النور في حجرة نومي، نهضت، وأخذت أنظر من النافذة الزجاجية المطلة على البحر، كنت أهرش بيدي خلف أذني، غير مصدق ما أسمع وأرى!! كان الصوت يأتي من منزل مضاء في الطرف المقابل من البحر كفنار من على البعد، كبئر بترول في صحراء مفتوح رأسها على النار، كل شيء يلتهب في ذلك المكان، الليل كله مضاء بقناديل من نار ونور، ارتديت ملابسي على عجل، لكم أقسمت لصدري المجنون، أن أطهر هذا القلب المتهور، أغسله بماء الملح، حتى يعرف السكينة والصبر والجلد على مصائب الزمن، لا يلتفت أبداً لما يحدث في زوايا الدنيا الأربع، ولكن يبدو أن من شب على شيء شاب عليه، دست على ذلك القسم، فحريق يشتعل في رأسي، يحيلك إلى رجل شرس، تزداد كثافة الصوت كلما اقتربت من المكان، حتى تكاد تصم أذني، أتوقف أمام منزل غارق في الرفاهية، قوافل من العربات الثمينة تصطف أمام البيت، يشكل مجموع قيمتها ميزانية دولة أفريقية، قرعت الجرس بشكل مربك ومتواصل، فمن سيسمعني في هذا السيرك، ليظهر لي رجل عرفني بنفسه، بأنه حارس هذا المكان، أخرجت من محفظتي بطاقة هي عبارة عن كرت شخصي، تحمل معلومات عني، سلمتها للحارس ليقوم بدوره بتسليمها لصاحب ذلك التجمع في ذلك التيه الجارف، عاد الحارس بعدها يدعوني للدخول وبلغة لطيفة، كانت سقطة جنون مني في حلبة ثيران وحشية، كانوا مجموعة من صيادي الليل مجتمعين، حيث شباكهم نائمة في الصباح، أفراح ساهرين، وزمرة من الصعاليك الأغنياء، يتحلقون حول أرجيلة ذهبية تجلس أمامهم كالعروس، يسري تبغ المعسل عميقاً في الرأس، ويمتد حريقاً في الرئة، سحقتني المفاجأة لفترة، من التعدد البشري، كان لساني جافاً كخشبة مما رأيت، دعاني أحدهم والذي كان يحمل رأسا صغيراً يشبه رأس سلحفاة، عمرها ألف عام، تصله بكتفيه العريضين وصدره الواسع، رقبة دقيقة كالحبل، وفي وجهه غاصت عينان صغيرتان ذابلتان، بينما امتد منخراه إلى الأمام طويلا، كخشم المهرج، دعاني للجلوس مرحبا، قال لي بفم يشبه ثقب مفتاح في باب عتيق: ساعة مباركة أتت بك هذه الليلة لنا يا دكتور، قلت له وأنا مذهول كتائبين، وبليغ كلسان الموت في إنشائه، بل صوت العقل يا سيدي، لقد أزعجتم بيوتا بأكملها بهذه الموسيقى، وهذا تجمع غير محمود، ألم تسمعوا بضحايا كورونا، ألم تسمعوا بتعليمات وتحذير وزارة الصحة ووزارة الداخلية؟ قال لي هذا حفل خاص يا دكتور، لدينا مناسبة خاصة، وهؤلاء كلهم أصدقائي، وهذا بيتي، قلت له إن بيتا لا ترعاه بحكمة ليس بيتك، وصديقاً لا تحميه بجفنك ليس منك، لقد بالغت يا أخي في سكب الزيت على النار، وأعلنت الحريق وحددت الضحايا، قال لي يا دكتور لا داعي للمحاضرات، فنحن لسنا طلابك، نحن جميعاً خريجو أرقى الجامعات، ودعته متوعدا بتبليغ السلطات، لكم اعتقدت في مرحلة من العمر، أن التعليم ينير الجماجم، ويدفعها لبناء وطن جميل، مجتمع واحد يتجاوب مع مصائب مجتمعه، اللعنة على تعليم لا يخرج سوى الحمقى، أحياناً تشعر أنك مختلف، من خلال هذه الرؤوس التي تعيش بيننا، تحمل تناقضها، موتها، سقمها، هذا العواء الذي تحدثه بعض هذه الجماجم، هو نفخ في مزمار مليء بالرماد، بالزيف، ستظل هذه الرؤوس تلفها الأقمشة الحريرية، وكأنها كفن تحت عفن، ما أبعد الزمن الذي لا يأتي، ليميط اللثام عن هذه المومياء، كم نحتاج من زمن يا ترى!! كاتب سعودي [email protected]