أشبه بخيالات الدراما والسينما، حكايات ينسجها البعض حول تشييع الراحلين بمرض كورونا، وغذّت هذه الخيالات ما يُتناقل في بعض المقاطع من مختلف الدول عن توابيت وشباك بلاستيك تحمل فيها الجثامين قبل إلقائها في حفر وخنادق، أو مثل ذلك المشهد المحزن في إحدى القرى العربية حين تصدى السكان لمنع مواراة طبيبة قبل أن تتدخل السلطات المحلية لتنتصر للدكتورة الراحلة لتطلق اسمها على أحد مرافق البلدة ردا لكرامتها أمام المانعين. صحيح، إن خطورة الوباء العالمي الفتاك تركت في نفوس الناس هواجس مشروعة، خصوصا في أعقاب الحملات المناوئة للفايروس، والتحذير المتتالي من طرق انتقاله، والحث على التباعد من الأحياء والأموات على حد سواء، وهي إجراءات فرضتها وزارات الصحة في أركان الدنيا الأربعة على سبيل الوقاية والمكافحة، وظهرت في بلدان عديدة جثامين ضحايا «كورونا» معزولة دون تشييع أو مراسم جنازات أو حتى طقوس عزاء ومواساة يشهدها أحباؤهم وأقرباؤهم. للموت هيبة وجلال، وفيه قال الشاعر السوداني الراحل صلاح أحمد إبراهيم: ما الذي أقسى من الموتِ؟ فهذا قد كَشفْنا سرّه، وخَبَرنا أمرَه، واستسغْنا مُرّه، فله فينا اغتباقُ واصطباح ُومَقِيل، آخرُ العمرِ، قصير أم طويل، كفنُ من طرفِ السوقِ وشبرُ في المقابرْ. ما سمعناه ورأيناه في المقاطع عن دفن ضحايا الوباء في بعض البلدان يدحضه رأي العين، وما وقفت عليه «عكاظ» في الواقع هو تكريم للميت بتعجيل دفنه على أحسن حال، وغسله وتكفينه دون تابوت خشبي، ودون حبال طويلة تهبط بالجثمان في قبره، كما تصوره بعض المقاطع والصور المفبركة. تصريح الدفن.. إذن مرور أمام محيط ثلاجة الموتى بالمستشفى الحكومي فريق من الممارسين الصحيين من أطباء وممرضين وحراس أمن، كأنهم جبلوا على التعامل مع جلال الموت وأحزان المحبين، يخفون ملامح الرهق بابتسامات الرضا ومفردات المواساة، ومشاطرة المحزونين أحزانهم، ثم السعي في الوقت ذاته إلى إكمال مهماتهم الرسمية بالدقة والانضباط والحزم، ففي هذا المكان لا شيء يحدث بالصدفة، حتى عبوات المياه المثلجة تنال حظها من التعقيم، وتطبيق التباعد بين المراجعين، لا يقطع الصمت غير مضخات التعقيم على جدران المبنى والأرصفة الداخلية، فيما يتسابق عمال النظافة إلى جمع المخلفات على رأس الدقيقة. بدت ساحة ثلاجة الموتى مثل معمل كيميائي عملاق ذاخر بعشرات الكوادر الطبية بالرداء الأبيض والكمامات الزرقاء، والأحذية المغلفة بالبلاستيك الواقي. حين اقتربت الساعة ال3، وهو الموعد المحدد بمنع التجوال في جدة، ضربت المشيعين الحيرة، قبل أن يطمئنهم المسؤول المختص بأن الجهات المعنية وضعت لكل طارئ حسابه، فالمشيعون محدودي العدد يسمح لهم بالعبور بتصريح معتمد لسيارات المشيعين، مع تطبيق التباعد في المركبة «لا يسمح إلا بشخص واحد مع السائق». «النظرة الأخيرة» والوداع «عن بُعد» تشرع ثلاجة الموتى في المستشفى الحكومي أبوابها جنوبا، في مكان حرصت عليه الجهات الصحية أن يكون بمنأى عن العيون، إكراما للموتى، وحفاظا على خصوصية مشاعر ذويهم، استعصم الحارس الأمني بمنع دخول من لا يسمح له. اقتربت حافلة «عمليات أمانة جدة» المخصصة لنقل الجثامين إلى الباب الرئيسي. المشهد كان مهيبا، نزل سائقان من المقعد الأمامي واختفيا لدقائق وعادا بلباس آخر أشبه برداء رجال الفضاء، معطف طويل أبيض شفاف، وغطاء رأس وحذاء طبي يبدو أنه خصص لمثل هذه المهمات. صرير الباب الرئيسي للثلاجة أشبه بالموسيقى الحزينة، يعقبه خروج اثنين من الممارسين الصحيين يدفعان نقالة الجثمان، المغطى بثوب أبيض، مسجل على ورقة تعلوها اسم المتوفى وجنسيته، ويسمح لذوي المتوفى بإلقاء النظرة الأخيرة عليه «عن بُعد»، وهو إجراء ممزوج بين الرسمية والإنسانية، للاستيثاق من هوية الجثة ومنح الفرصة لأحبابه ومعارفه لوداعه. في هذا المكان لا يسمح لأحد الاقتراب أكثر مما ينبغي، مع التعليمات المشددة للمراجعين بعدم لمس الأسطح أو التطفل والتدخل فيما لا يعني. حافلة الجثمان تعبر زحام جدة شقت حافلة البلدية، حاملة الجثمان، طريقها بصعوبة في زحام جدة إلى المقبرة المحددة. عشرات السيارات التي كانت تعبر الزحام في سباق مع الساعة ال3، لو أدركت أمر الحافلة الصغيرة البيضاء، شريكتها في الطريق، لما أطلقت أبواقها تحثها على فتح المسار لها في الزحام. حين دقت عقارب الساعة ال3 تباطأت سرعة السيارات عند نقاط الارتكاز الأمنية، التي تدقق في هوية وتصريح كل عابر، وسرعان ما تتحول صرامة رجال الارتكاز إلى دفق إنساني رفيع بمجرد إطلاعهم على تصريح الدفن «أحسن الله عزاءكم ورحم ميتكم»، ثم يشيرون بالعبور. هنا في المقبرة، عشرات المستخدمين بلباس أخضر، يتولون نقل الجثمان إلى المغسلة، ويطل أحدهم سائلا عن أقارب الدرجة الأولى للراحل لتسليمه حاجياته الشخصية معقمة في عبوة بلاستيكية، ثم تتحرك ذات السيارة في رحلة جديدة إلى المدفن الترابي، ولا يسمح لمشيع أن يهيل التراب، فكل شيء مرتب هنا. وبعيدا عن الروايات التي تنسجها الألسنة، مضت مراسم التشييع كما هو معتاد في كل حالة، ذات الطقوس والمهمات التي تحدث في كل تشييع ودفن، ينزل الجثمان إلى القبر بهدوء وتكريم، ويهال على المتوفى التراب، مع التأكيد والتعليمات المشددة من العاملين على الجميع بالتباعد والمشاركة بحذر. في المقبرة مواقع مخصصة للوضوء، وتتم الصلاة على الجثمان بمراعاة التباعد بين المصلين، وينفض الجمع من المقبرة بعد الدعاء للمتوفى بالرحمة والمغفرة، وفي طريق العودة في ساعات المنع، تبدو الشوارع خالية تماما، إلا من نقاط الارتكاز التي تسهل عودة المشيعين. جثة المتوفى بالجائحة.. هل تنقل العدوى؟ ثمة سؤالان يدوران في المخيلة، هل تنقل جثة المتوفى بوباء كوفيد-19 العدوى للآخرين، ومتى تكون إجراءات طقوس الجنازات آمنة؟ قالت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها أخيرا، إنه ليس مبررا الخوف من نقل الجثث للعدوى طالما تم اتخاذ كافة التدابير الوقائية والاحتياطات اللازمة، فالعدوى تنتقل في الغالب عبر قطرات رذاذ يطلقها البشر، أثناء حديث المصاب أو عطسه أو سعاله. وأوضحت المنظمة العالمية أن البقايا البشرية لا تشكل خطرا على الصحة إلا في حالات قليلة خاصة، مثل الوفيات الناجمة عن الكوليرا أو الحمى النزفية. وأن معظم مسببات الأمراض لا تعيش لفترة طويلة في جسم الإنسان بعد الموت. وطبقا للمستشارة الإقليمية لشرق المتوسط لمكافحة العدوى بمنظمة الصحة العالمية مها طلعت، فإن المتوفى المصاب ب«كورونا» لا ينقل العدوى بصورة كاملة، وهناك إجراءات يجب أن تتخذ أثناء غسيل الجثمان. المفتي: يجوز للأقارب أداء صلاة الغائب في إجابة سابقة عن صلاة الجنائز في ظل الجائحة، أكد مفتي عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ أن الجنازة يصلى عليها في المقبرة من بعض الأقارب، وقد أدوا بصلاتهم فرض الكفاية، أما بقية أقارب الميت فيصلون في بيوتهم على ميتهم صلاة الغائب. وحول حكم إقامة صلاة الجنازة في بيوت كثيرة بسبب تعدد معارف المتوفى وأقاربه، أجاب المفتي بقوله: لا حرج في الصلاة على الغائب في بيوت متعددة لكثرة أقاربه، حتى لا يحصل الاجتماع الذي ربما بسببه ينتشر هذا الوباء. وعن مشروعية الإتيان إلى المقابر بغرض الصلاة على الجنازة التي دفنت في هذا الوقت، ولم يصلِ عليها بعض الأقارب والمعارف، بعد ارتفاع المرض، أجاب المفتي بقوله: يجوز لأقارب المتوفى أن يصلوا عليه عند قبره بعد ارتفاع المرض. وكانت وزارة الشؤون الإسلامية، بتوجيه من الوزير، سارعت إلى منع إقامة صلاة الجنازة في المساجد وأن تقام في المقابر وبعدد محدود منذ بداية ظهور وباء كورونا، في ظل الإجراءات الاحترازية الاستباقية التي عملت عليها الوزارة مواكبة لجهود الدولة لمنع انتشاره. إيطاليا تحرق.. الصين تمنع.. وإيران تحظر الأقارب! وقفت دول عدة عاجزة عن التعاطي مع جثث موتى «كورونا» بعد وصول الوفيات فيها إلى المئات في اليوم الواحد. ففي إيطاليا مثلا استعانت السلطات بالجيش لنقل الجثث، وشوهدت شاحنات تنقل التوابيت في جنح الليل، وعمدت السلطات المحلية إلى إحراق عدد من الجثث. وفي الصين، أحرقت السلطات جثث ضحايا فايروس كورونا بشرط أن تكون المحارق قرب منازل الضحايا مع منع الطقوس الجنائزية. أما إيران، فقد امتنعت وزارة الصحة عن تسليم الجثث إلى ذويها وأظهرت صورا ومقاطع مسربة عن دفن الضحايا في سرية تامة دون حضور ذوي الضحايا، ما أثار الذعر والهلع وسط الأهالي الذين تساءلوا إن كانت جثث ضحايا «كورونا» خضعت للغسل والتكفين.