في بدايات العديد من الأفلام الأجنبية أو نهايتها، تتكرر جملة في أسفل الشاشة، تقول إن أي تشابه بين أبطال أو أحداث، ذلك الفيلم، وبين أشخاص حقيقيين، أو أحداث وقعت فعلاً، ما هو سوى محض صدفة، يبدو أن الله عز وجل منحني فرصة كي أعيش هذه اللحظة، لأصف بعض أحوال هذا الشعب، وحياته في زمن الكورونا، ولأسجل الخوف بطعم الحياة، والحلم الذي يجسد الواقع، والألم الذي يقتلنا ليس انتقاماً ولكن ليذكرنا ما نسينا، ولأشهد ظهور فئة كرتونية من عبيد التفاهة والمزح السمج في استعراض يعجز أكبر قاص عن سرده أو وصفه في حكاية أو قصة، فما تسمعه أذناي، وما تراه عيناي هذه الأيام وخلال هذه الأزمة يستحق التسجيل والتأمل، فهو تصوير للمشاعر البشرية الحقيقية، ما يفكر الناس فيه، ما يفهمونه، ما سيتذكرونه من هذا الحدث الجلل، ما يومنون به، ما يتوهمونه، ويرجونه ويخشونه، ويختبرونه، ولقد أشرت في مقدمة مقالي، إلى أن التشابه بين الأحداث والأشخاص هو محض صدفة وأرجو أن لا تفسد القضية الود، والقضية التي أعنيها هنا، أنه ظهر في هذه المحنة وعلى مسرح الواقع بشر كنا نحسبهم أناساً عاديين، وهم في الواقع أبطال، غيروا بفكرهم وعملهم وجه المجتمع، وأثبتوا أن البطولة لا تزال ممكنة في الحضارة المعاصرة، سجلوا تاريخ حدث ومرحلة وبلد، وأصبح الجميع ينتظر ظهورهم من الشرفات، وعلى أجهزة الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، حيث تحولوا إلى نجوم حقيقيين في سماء هذا الوطن، ولأن هناك من المغمورين أفراداً ممن أزعجهم أن يسيروا في الشوارع بسياراتهم الفارهة ولا يتعرف عليهم أحد، قرروا أن يحققوا نزراً يسيراً من الشهرة والتفرد والتميز، جذبهم هوس الظهور فتفردوا في الفضيحة والازدراء والشفقة من عباد الله، فلا أعتقد أن هناك أي بالغ عاقل يختار الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي «بجلابية» منسدحاً على سرير بحري، ليتحدث عن الكورونا، وهو ليس الوحيد الذي اختار الحديث عن الصحة للإضرار بالعافية! فهناك من ظهر من أرض الكنانة يوصي «بالبطيخ أبي البذر الأسود» لعلاج الكورونا، وشدد على أن الأفرنجي «ما ينفعش» وآخر من الهلال الخصيب، فاحت من وصفاته رائحة الزعتر المجنون والليمون، وظهر بجانبه من يفتي بماذا يفعل الكبريت بالقرفة، وهناك من وجد الخيل سانحة إلى شقراء فاستعان بمن يسانده على ركوبها، فنشر وعلى استحياء أنه يعرض فندقه على الجهات المختصة، وهو يعلم تماماً أن ذلك الفندق بعينه، أصبح ملكاً للدولة ضمن تسويات (الريتز) وما أدراك ما الريتز، معتقداً أن ذاكرة الناس قد تضعف في زحمة هذا الكورونا، وهناك من حاول أن يصور أن هذه الأزمة برمتها فبركة تآمرية استخباراتية، رغم أنه يشهد البشر يتساقطون في أرجاء العالم مثل حريق عجول، وليس في سماء الطيور طيور! ومن جعل زفرة توشك أن تخرج من صدري لكنها تأدباً أمسكتها قبل أن تفر من رئتي، وذلك عندما تابعته يجز لحيته وعلى الهواء مباشرة، وفي حركة مسرحية من مسرح اللامعقول، أما بعض أنصاف الأطباء الذين هجروا الطب، وقرروا أن يصبحوا ممثلين، ولو لدقائق في اليوم، في فترة العزل، حيث وجدوا في ذلك تجربة جذابة، فأخذوا يتحدثون عن الفضيلة، وإغلاق المساجد، وضرورة عودة الأطباء السعوديين المشاركين في الخارج لإنقاذ الإنسانية، وتمثيل بلادهم أفضل تمثيل، على اعتبار أن بلادهم أحق بهم! وتقمص أحدهم ثوب الاقتصادي الخبير، فاعتبر العالم مرآة محطمة، لايري منها إلا أجزاء متناثرة، وكسوراً تعجز الأمم عن استعادة نظامها القديم، وأنها لن تلتئم كما كانت أبداً، وفي جلجلة لفظية بالغة الازدحام، بعيدة كل البعد عن المسؤولية، أفتى أحدهم، أن هذا الوباء الخسيس، لا يتسلط أكثر إلا على المسنين، وضرب من الإحصائيات والأمثلة ما يؤيد أن عليهم أن يستعدوا أن يموتوا مبكراً إن أطبق الداء على «زمارة أرقابهم» وما إن خلص المناضل من حديثه، حتى انخرطت «أنا المسن» أفكر في ذلك الصهيل المعلب، والذي استكثر صاحبه علي، حتى حق العيش في كبسولة معزولة، ويسعى إلى دفني حياً، ولا يعلم ذلك المهرج، أنني وغيري من طائفة المسنين، نرفض ما يقوله نصاً ومضموناً، وأننا سنواصل مغامرتنا في المجهول، وسنعيش حتى آخر العمر، نهرم.. نعم!! يتسرب إلينا النعاس في أوقات غريبة.. نعم!! ننام في أي مكان.. نعم! نتحدث كثيراً.. نعم! ولكن أحلامنا يا صاح لا تهرم حتى ولو كانت بسيطة، لا تتجاوز سعة قبر على هامش حديقة، نعم اقتربت حياتنا من نهايتها، ولكننا لا نسعى إلى الموت، ولا نخافه، بل نعتبره نعمة لا نقمة، مجرد حقيقه طبيعية، نموت باختيارنا، لا باختيار كورونا، وذلك بعد أن نترك قصائد كافية على زند الأحلام، ونكتب رسائل كافية من الحنين لكل الأصدقاء المتناثرين، نكتب قصيدتنا الأخيرة، ونركض نحو حلم جماعي اسمه الفرح، نترك في منعطفات الطرق رائحة الشوق، ولأحفادنا على أحجار الطرق نقوشاً بطعم الشمس، نقرأ في الليل ما يكفي من الكلام المباح، ونعشق وحتى يغزونا الصبح الجميل، وعند الظهيرة نتفقد بعضنا بعضاً، نتأكد أنه لم يسقط أحد! نعم لن يسقط منا أحد، فنحن مسني هذا البلد وهذا الزمان، نختلف عن مسني ماركيز «في الحب في زمن الكوليرا» لأننا نحمل الأمان الصغير، في هذا الوطن الجميل الكبير، سيغادرنا الليل بلا نعش ولا أسف، هكذا قال لنا ابن سلمان.. وكل ما يقوله يتحقق.. فهو أجمل صباحاتنا في شوارع الأمس الضيقة. * كاتب سعودي [email protected]